بتعيين الملك لشخصية تكنوقراطية في منصب الوزير الأول، يكون قد وضع حداً لتجربة التناوب الأول التي قادها عبد الرحمان اليوسفي، وخرج عن “المنهجية الديمقراطية” التي كانت تقضي بإسناد منصب الوزير الأول لشخصية من الحزب الحاصل على الرتبة الأولى في انتخابات 2002.
كان المفروض أن يُعهد إلى شخصية حزبية بتولي حقيبة الوزارة الأولى حتى يكون للانتخابات معنى، رغم صواب كل التحفظات المسجلة على نزاهة الانتخابات ورغم محدودية الصلاحيات المخولة للحكومة وللوزير الأول، ولكن يبدو أن الملك اعتبر أن حل مشاكل البلاد ومعالجة الملفات باقتدار ونجاعة ودقة يتطلب استدعاء كفاءة التكنوقراط الذين لا يتقدمون للانتخابات ولا يعرضون، نظرياً، على الشعب برنامجاً للتصويت عليه، لشغل هذا المنصب الحساس والمهم، ولو من الناحية الرمزية، واستبعاد الأحزاب. إن هذه الإشارة التي تتضمن تثميناً للتكنوقراطية هي في الواقع تعبير عن إرادة السير في طريق تقديم التنمية كبديل عن الديمقراطية، بدعوى أن ما يهم الناس هو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ولا يهمهم أن يكون للوزير الأول لون سياسي أم لا، فإذا كان قادراً على حل المشاكل وحسن تدبير شؤون البلاد فهذا هو المهم.
استغل النظام، آنذاك، الصراع الضاري الذي نشب بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حول مدى أحقية كل منهما لشغل منصب الوزير الأول، من أجل إعطاء دفعة للفكرة القائلة بأن المعالجة الجدية لمشاكل التنمية تقتضي المزيد من مركزة القرار وحصره في دائرة ضيقة من المقربين والتخلص، في نظره، من “ثرثرة” السياسيين الذين لا ينجحون سوى في خلق المشاكل عوض حلها.
اضطر اليوسفي إلى الاعتراف بفشل التناوب الأول، وتعذر الانتقال من (التناوب التوافقي) إلى التناوب الديمقراطي كما بَشَّرَ بذلك دعاة المشاركة الحكومية في 1998، وعَدَّدَ العوائق الجوهرية التي واجهت التجربة، وهي عدم توفر الحكومة على الوسائل الكافية لتطبيق برنامجها، وإخضاعها الممنهج لتقاليد عتيقة تعيق حركتها وتجمد مبادرتها، ووجود نوع من الازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة مما يعرقل عملية تحديد المسؤوليات وترتيب المحاسبة.
وبعد وقوع تفجيرات 16 ماي 2003، سيختار (العهد الجديد) الدخول في مرحلة جديدة حَلَّ فيها التشدد محل إشارات الانفتاح، وأصبحت الحرب على الإرهاب ذريعة إضافية لمزيد من مركزة القرار.
بعد تفجيرات 2003، سار النظام السياسي في اتجاه وقف مسار الانفتاح وتدشين مسلسل لتقييد الحريات، وحاول أن يوحي بأن هناك حاجة إلى إعطاء الملك المزيد من الصلاحيات لترميم الشرخ الاجتماعي ومحاربة الأسباب التي يُفترض أنها أدت إلى الإرهاب.
كما عمل النظام على فرض ترديد الرواية الرسمية للأحداث كرواية مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وعلى بناء جبهة خلف الملك لحماية المغرب، والحفاظ على “الاستثناء المغربي” الذي يعني أن الإرهاب نبتة غريبة عن تربته، تَمَّ تصديرها إلينا لمحاربة المس بإجماع المغاربة حول ثوابتهم.
وكان التناقض في خطاب النظام واضحاً، فبموازاة الحديث عن “حصانة” المغرب، ومحاولة تحريم أية إشارة إلى الأسباب والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتفريخ الانتحاريين، كان يتم تدشين مشاريع اجتماعية ووضع برامج لمحاربة الفقر والتهميش والإقصاء في الأحياء التي ينحدر منها الانتحاريون.
حصلت الأجهزة الأمنية على المزيد من الضمانات والصلاحيات والعدة والعتاد، وتحول الأمر، تدريجياً، إلى ما يشبه الحصانة، وتَمَّ تمرير قانون محاربة الإرهاب رغم عيوبه الجلية، واعتُقل الآلاف، وحوكم المئات في محاكمات لم تستوف، قط، شروط المحاكمة العادلة، ورغم اعتراف الملك بحصول تجاوزات فلم تُتخذ أية إجراءات عملية جوهرية لضمان عدم تكرار تلك التجاوزات.
اعتمد القضاء، كثيراً، على تقارير الأجهزة، وتعززت القبضة الأمنية، ولم تستطع المنظمات الحقوقية مواكبة ما يجري في محاكمات تمت بإيقاع مفرط في السرعة للحيلولة دون استفادة المتابعين من بعض الضمانات التي تضمنها قانون المسطرة الجنائية الجديد.
وظلت الحرب المغربية على الإرهاب تجري بنفس المنطق والآليات، واستمر الأمر، كذلك، بعد وصول موجة “الربيع العربي”، ولنا أن نتصور الآثار التي تخلفها مثل هذه الحرب على الحرية في بلد لم يحقق انتقاله الديمقراطي ولا يعرف، عملياً، شيئاً اسمه الحكامة الأمنية !
طبعاً لا يمكن إنكار النتائج التي تَمَّ التوصل إليها في محاصرة الظاهرة الإرهابية، أمنياً، ولكن يظهر أن الثمن الذي يُطلب من المغاربة أن يؤدوه، مقابل تلك النتائج، باهض على مستوى الحقوق الديمقراطية.
ذلك أن الحرب على الإرهاب، في بلد كبلدنا، تتحول بسهولة إلى حرب على الديمقراطية، أيضاً، ووسيلة لمعاقبة عدد من المعارضين الذين لا علاقة لهم بخلفية الإرهابيين ومخططاتهم، وسبباً في الإخلال بالتوازن الذي يُفترض قيامه بين الأذرع الأمنية للنظام وأذرعه الأخرى.
والجذير بالذكر أن هذه الحرب تجري خارج منطق وعمل الحكومة “الإسمية”.
وحتى الشعار البراق الذي رفعه النظام، بعد تفجيرات 16 ماي، وهو شعار (المشروع الديمقراطي الحداثي)، لكسب ود اليساريين وجرهم إلى صفه وبناء حلف معهم ضد الإسلاميين، فسَيَتِمُّ تناسيه ووضعه في الرف بعد مدة ليست بالطويلة.
حاول النظام أن يقنع الناس بأنه قادر على إيجاد جواب لكل سؤال من أسئلة التنمية، بغض الطرف عن برامج الأحزاب ونتائج الانتخابات، وأنه في حاجة فقط إلى أطر تكنوقراطية قادرة على حل المشاكل لأن الأحزاب عاجزة.
هذا الاختيار هو الذي يلخصه شعار (الملكية التنفيذية)، وهو يعني أن الملك يعبر عن إرادة شعبه في تحسين الأوضاع، وأنه أعد لذلك مجموعة من الأوراش الكبرى والمخططات القطاعية وبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وأن المغرب قادر، بفضل ذلك، على الخروج من النفق والالتحاق بصف الدول البازغة.
إذن، هناك اليوم، كما كان الأمر في الماضي، ما يمكن تسميته ببرنامج الدولة القار.
و”برنامج الدولة” يحتاج إلى “حزب الدولة”، أي إلى قوة سياسية “جديدة”، تساعد في تسويق البرنامج، وتتولى كسب المعركة ضد الإسلاميين. وهذا الحزب هو أيضاً حزب إداري، ولكنه الحزب الإداري الأول؛ إذ لم يعد المشكل، بالنسبة إلى النظام، هو الحصول على أغلبية برلمانية مريحة، فهذا متوفر، بل أصبح المشكل هو وجود حزب “إداري”قادر على احتلال الصف الأول في الانتخابات.
الملكية التنفيذية هي، إذن، ملكية تسود وتحكم، وحزب الدولة هو أداة سياسية جديدة لمحاربة الإسلاميين ودعم “الأوراش الملكية” وتجديد الحياة السياسية وتعويض النخب الحزبية التقليدية بنخب تتوسل إلى خطاب أكثر إقناعاً لناخبين تأكد ميلهم نحو الخطاب الإسلامي.
الملكية التنفيذية تعني، عملياً، استبعاد أي إصلاح دستوري، على أساس أن الإصلاحات المطلوبة لا تتوقف على تغيير دستوري، بل على تغيير “مؤسسي” أدنى من الدستور.
يتضح من خلال هذا التوجه خضوع النظام المغربي إلى إغراء النموذج البنعلي في تونس حيث بدأ التسويق لفكرة نجاح النموذج التونسي في تحقيق قدر هام من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وخلق طبقة متوسطة.
وتظهر علاقة الحزب الذي تَمَّ إنشاؤه بـ”الدولة” من خلال عدة عناصر؛ فالشخصية التي أخذت مبادرة التأسيس شغلت منصب وزير منتدب في الداخلية، قبل أن تستقيل بطريقة مفاجئة وتتقدم لانتخابات 2007، معلنة أن ذلك لا يندرج في أية أجندة سياسية، وبعد حصول نتيجة دائرة الرحامنة ظهر كما لو أن الطريق سالكة لاكتساح الانتخابات من طرف حزب تؤسسه هذه الشخصية.
وما كان لأفواج الأعيان، التي هاجرت بكثافة ملفتة من الأحزاب الإدارية التقليدية إلى الحزب الإداري الجديد، أن تفعل لو لم تتأكد لها القناعة بأن هذا الحزب هو الأقرب للسلطة من كل الأحزاب الموجودة في الساحة، وأنه لا ريب سيحظى بامتيازات مؤكدة. وهذا ما حصل فعلاً في عمليات تشكيل مكاتب الجماعات المنبثقة عن انتخابات 2009، وفي “الترضية القضائية” التي حظي بها الحزب وجعلت جيش المُنْتَخَبِين، الذي غادر الأحزاب التي انْتُدِبَ باسمها في الانتخابات، ضدًا على مقتضيات القانون، والتحاقه بالحزب، لا يلحقه أي جزاء.
وسيظل هذا “الحزب الإداري الجديد” حزب المفارقات بامتياز، وحزب إنتاج الغرائب والعجائب، ولا أدل على ذلك من إعلانه بأن وثائقه الرسمية هي النصوص الصادرة عن مؤسسات وهيئات عمومية (هيأة الإنصاف والمصالحة مثلاً)، واعتماد بنائه التنظيمي في القيادة على أسماء يسارية سابقة تزعم المنافحة عن الحداثة، وفي “القاعدة” على أعيان أمضوا حياتهم السياسية في مقاومة الحداثة، وتردده خلال المراحل الأولى لنشأته، في تصنيف نفسه فهو يقول إنه ليس حزبًا يسارياً وليس حزباً ليبرالياً، قبل أن يقع على توليفة لا تعني، في ضوء الخارطة الحزبية المغربية، أي شيء، وليس هناك ما يسندها في الواقع، فهو حزب يصنع الشيء ونقيضه وتتضارب مواقفه في النظر إلى الواقعة الواحدة.
عندما يقبل النظام السياسي المغربي إجراء الانتخابات ولا يقبل نوعاً من النتائج التي يمكن أن تُفْضِيَ إليها، وعندما يقبل الانتخابات ويرفض أن تفضي إلى التأثير، جوهرياً، في طبيعة القرارات المتخذة والبرامج المسطرة، فإن النتيجة العملية لذلك هي اصطناع أحزاب موالية، وتزوير الانتخابات لصالحها لضمان وجود أغلبية مريحة تساير كل ما يصدر من مركز القرار الأصلي وتدعم منطق الحكم السائد وتضمن عدم حصول أي تغيير أو تداول حقيقيين.
وينتج عن ذلك تشوه في الخريطة السياسية، حيث تتمكن أحزاب ليس لها وزن حقيقي، في الواقع، من الحصول على عدد كبير من المقاعد.
وإذا كان المفروض أن يؤدي الانتقال الديمقراطي المأمول في المغرب إلى التخلص من ظاهرة الأحزاب الإدارية، فإن تطور الواقع السياسي قد أدى، بالعكس، إلى تكريس ظاهرة الأحزاب الإدارية، وتحولت عدد من الأحزاب “التاريخية” إلى أحزاب إدارية جديدة، فأصبح لها نوع من التبعية للنظام، وغَدَتْ تستحسن كل ما يصدر عن مركز القرار، ووضعت نفسها تحت الخدمة مقابل مواقع ومغانم، وتحولت تنظيماتها، في الغالب، إلى ما يشبه الهياكل الصورية المفتقدة للحيوية النضالية.
الأحزاب الإدارية لا تتوفر على أعضاء يمكن أن يقدموا تضحيات حقيقية من أجل أفكارهم ومواقفهم، فهم لا يعتبرون الأفكار والبرامج أساس الانتماء، بل يعطون الأسبقية للاستراتيجيات الفردية، ولا يدافعون عن استقلالية القرار، ويتساهلون في كل ما يتعلق بطبيعة الوسائل المستعملة، ويدعمون “برنامج الدولة القار” حتى ولو تَغَنَّوْا بشعار “الليبرالية”.
لقد نجح النظام في استقطاب وإدماج أغلب الأحزاب “الكبرى”، بعد صراع مرير، وفرض نوعا من التنميط الحزبي والتماهي المتبادل بين الأحزاب، وجعلها أشبه بكتلة متجانسة، تَتَّحِدُ في المقومات والأسس التنظيمية والثقافية والانتخابية والسلوكية، وتُبْدِي استعداداً مسبقاً وغير مشروط للتحالف مع بعضها البعض، في كل الظروف والسياقات، ما لم تتلقى إشارة بفعل العكس !
إن صفحة الأحزاب الإدارية لا يمكن أن تُطوى، بمجرد قبول الأحزاب “التاريخية” مبدأ التحالف معها، بل لا بد من مصالحة وطنية، في ظل انتقال حقيقي، يَتِمُّ، من خلالها، الاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت فيها نخب الأحزاب الإدارية، وجبر الأضرار، وحَلِّ الهياكل الرسمية، والتزام مؤسسات الدولة بالحياد الحزبي..إلخ.
الأحزاب الإدارية هي، جميعاً، أحزاب الدولة، لكن الاعتبارات الانتخابية فرضت على النظام العمل بتعددها، مع تمتيع حزب، منها، بوضع أكثر امتيازية فيصبح بذلك “الحزب الإداري الأول”، والهدف هو تمكينه من الحصول على حقيبة رئاسة الحكومة.
لكن الحزب الإداري الأول يمكن أن يتغير حسب الظروف !
و”الملكية التنفيذية”، من الناحية الاقتصادية، تعني استمرار ذات الاختيارات التي انتُهجت في الماضي، ولاسيما الرهان على خلق ودعم “بورجوازية محلية” وتوجيهها نحو القطاعات التصديرية وتسخير موارد وإمكانات البلاد لربح هذا الرهان.
بغض النظر عن شرعية هذه الاختيارات من عدمها. فإن حصيلتها كانت كارثية. فنسب الفقر والهشاشة والبطالة والأمية تظل مرتفعة بكل المعايير والمقاييس وبإجماع كل المؤسسات الوطنية والدولية، ويواكبها تراجع مستمر ومهول في مستوى وجودة الخدمات الاجتماعية.
إن هذا الفشل هو حقيقة لازمت، تاريخيًا، الاستراتيجيات الاقتصادية للنظام السياسي المغربي، وفي غياب آليات ديمقراطية تربط المسؤولية بالمحاسبة، فقد أعُدمت كل إمكانية لمراجعة هذه الاستراتيجيات.
بعد هزة 2011، اضطر النظام السياسي المغربي إلى إدخال بعض التغييرات التاكتيكية على الخطط والسيناريوهات التي أَعَدَّهَا للحاضر والمستقبل.
كان الدافع الأساسي إلى تلك التغييرات هو موجة “الربيع العربي” في البلدان “الشقيقة”، والتي كانت حركة 20 فبراير في المغرب امتدادًا طبيعياً لها من بعض الوجوه وليس من كل الوجوه.