الباب الأول :
التوجهات الاستراتيجية الكبرى :
هوية يسارية متجددة، مستوعبة للتطورات، ومستفيدة من الوجه المشرق لثراتنا الديني والثقافي.

ينعقد مؤتمرنا الوطني الرابع في ظروف مختلفة عن الظروف التي انعقد فيها مؤتمرنا الوطني الثالث. فمؤتمرنا السابق جرى في ظل حراك متميز، في الشارع، أطلقته طليعة من الشباب المغربي، تحت شعار إسقاط الاستبداد وإسقاط الفساد. وهو ما عُرف بحركة 20 فبراير، وامتد لعدة شهور، مورس، خلالها، نوع من الضغط النضالي على النظام، في سياق إقليمي ثوري، وقبلت، عندها، السلطوية بالتراجع وتقديم بعض التنازلات التاكتيكية وتدشين مسلسل سياسي أفضى إلى حصول “التناوب الثاني” في المغرب.

أما مؤتمرنا الحالي فيجري في ظل سلسلة من الاحتجاجات الاجتماعية المتنوعة، في مختلف مناطق المغرب، والتي بلغت ذروتها في انتفاضة الريف البطولية والسلمية والتي شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين الذين توافقوا على صياغة ملف مطلبي متكامل. لكن السلطوية، هذه المرة، اختارت الهجوم بدل التراجع، واختارت تقديم المئات من الشباب أمام المحاكم ومتابعتهم بتهم خطيرة، واعتبرت أن المسلسل السياسي الذي بدأ في 2011 يجب أن يُوضع له حد وأنه بمثابة قوس حان وقت إغلاقه، وأن كل ما تَرَتَّبَ عنه من التزامات، على محدوديتها، يتعين التحلل منه، في ظل وضع ما فتئ يتراجع ويتدهور وينحو في اتجاه إلقاء مسؤولية الأزمة على الأحزاب والمؤسسات والتهرب من المسؤولية عما وقع ويقع.

وهكذا تَمَّ شن هجمة ممنهجة وغير مسبوقة على الحريات، وخرجنا من دورة سياسية ودخلنا دورة جديدة تطرح علينا المزيد من التحديات الجدية.

وسيحلل نص المشروع تطورات الوضع السياسي ببلادنا، ويستعرض أهم مجرياته ووقائعه، في الباب الثاني. لكن، قبل ذلك، سَتَتِمُّ إعادة التذكير بعناصر هويتنا كحزب اشتراكي يساري في عالم يمور بالتحولات، في الباب الأول.

أما الباب الثالث فسيتناول مضمون المهمتين اللتين تشكلان أساس برنامجنا الحزبي للمرحلة المقبلة وهما :

  • مهمة تحضير وتقديم عرض سياسي جديد لمواطنينا في مغرب بلغ درجة عالية من الاحتقان، ولم يعد يثق في أغلب نخبه، مغرب يكثف احتجاجاته الفئوية والمحلية، ويستعمل لغة جديدة في مواجهة السلطوية، وينتظر تبلور مشروع جديد للإنقاذ.
  • مهمة تحضير خارطة طريق خاصة بالانتقال المغربي.

المهمة المركزية لمؤتمرنا الوطني الرابع، هي، بدون شك، مهمة إطلاق العد العكسي لمؤتمر الاندماج. ونقصد بذلك تكثيف سيرورة التحضير لتقديم عرض سياسي جديد إلى شعبنا، عبر بناء حزب يساري عصري وازن يضم مناضلي الأحزاب الثلاثة (الحزب الاشتراكي الموحد – المؤتمر الوطني الاتحادي، وحزب الطليعة الديمقراطية الاشتراكي)، من جهة، ويضم، أيضًا، مجموعة من الفعاليات والجمعيات والطاقات اليسارية والتقدمية المغربية، من جهة ثانية، وذلك لتعبيد الطريق المفضي، عبر نضال متعدد الجبهات، إلى الملكية البرلمانية.

يجب على مناضلاتنا ومناضلينا، في قواعد الحزب، أن يتصرفوا مع باقي مناضلي الفيدرالية، من الناحية العملية، كأعضاء حزب واحد، وان يكثفوا كل أشكال التعاون والتنسيق والتشاور اليومي والعمل الموحد لتهيئة شروط الحدث التاريخي الذي سنعمل على صنعه، جماعيًا، بحماس وتفاؤل وثقة في المستقبل.

الباب الرابع سيعالج مسألة التحالفات، على أساس أن العلاقة القائمة بين الأحزاب الثلاثة للفيدرالية هي، الآن، أكبر من تحالف وستتحول إلى اندماج تنخرط فيه طاقات أخرى، وأن الحزب المنبثق عن الاندماج سيعمل على توفير شروط بناء جبهة للانتقال الديمقراطي.

وأخيراً، سيتناول الباب الخامس قضية التنظيم والأداة، مركزاً على ضرورة اتخاذ كل ما يلزم من الخطوات للتحول إلى حزب عصري بأجهزته الإدارية والإعلامية، وتدبيره المالي المنظم، وعلاقاته الخارجية، وشبكة مقراته، وبثقافة حزبية بديلة تثمن دور المؤسسات والعمل الجماعي.

إن المطلوب منا، جميعاً، هو تحقيق ثورة فعلية على مستوى طرق العمل وعصرنة فكرتنا عن الحزب الذي نريد، وتجديد التعاقدات بيننا لضمان تفعيل دور المؤسسات الحزبية واحترام قراراتها وجعلها بؤرة للمبادرة والإبداع ومصدراً للتحفيز على العمل والعطاء والإنتاج، وتعميق وتسريع مسلسل الانفتاح والوفاء لكل ما يطرحه علينا من متطلبات والتزامات.

إن الحزب المتجدد والمتطور الذي نعمل على بنائه هو الحزب الذي يستطيع الجمع بين المبدئية والنزاهة والمصداقية، من جهة، والنجاعة والفعالية، من جهة أخرى.

وقبل الشروع في عرض مضامين الأبواب الخمسة، نرى التذكير بالمهام العشر المطروحة على مؤتمرنا الوطني الرابع في هذا الظرف الحساس من تاريخ بلادنا وتاريخ حزبنا.

إن نجاح مؤتمرنا الرابع سيُقاس بمدى قدرته على تحقيق مساهمة نوعية في النهوض بالمهام العشر الآتية :

  • إعادة تدقيق هويتنا اليسارية في ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، محلياً وعالمياً، والجواب على أسئلة من قبيل : ما هي طبيعة اشتراكية اليوم؟ وما معنى أن تكون يسارياً اليوم؟ وكيف يكون الجواب على هجمة الليبرالية المتوحشة؟ وما هي أسباب تعثر المشروع اليساري في عدد من بقاع العالم؟ وكيف نطور برامجنا كيساريين مغاربة لمواكبة الحجم الذي أصبحت تتخذه المسألة البيئية في نضال القوى اليسارية والإنسانية جمعاء؟
  • مواجهة التحديات الجديدة التي يطرحها علينا، جميعًا، خيار النظام في مواجهة حراك الريف. لقد جعلنا سلوك النظام حيال حراك الريف، اليوم، ندرك، أكثر، خطورة الوضع المترتب عن ضعف مصداقية المؤسسات الرسمية والحزبية، والدور المتنامي للشارع، والسهولة التي ينزلق بها النظام، فجأة، إلى تكرار انتهاكات ما سُمي بسنوات الرصاص، وتضخم أدوار وتدخلات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في غياب الحكامة الأمنية –في وضع تحكمي أصلاً- وغياب السلطة المضادة. ووقفنا على هشاشة “الاستقرار” الذي يعتبره البعض عنوان “الاستثناء المغربي” وإمكان التراجع عن أبسط المكتسبات في أية لحظة إذا تَكَدَّرَ مزاج الحاكمين.

هذا يفرض علينا مزيداً من الانخراط في الحركات الاحتجاجية، وتكثيل الجهود لمواجهة حملات القمع، والتفكير في الوسائل الجديدة لفضح الانتهاكات ومؤازرة الضحايا، والتعاون مع فاعلين جدد من قادة الحركات الاحتجاجية وعائلات المعتقلين، وتطوير آليات المتابعة الحقوقية والاضطلاع بأعباء جديدة على مستوى نشاط المناضلين في الفضاء الأزرق، وتعزيز الصلة بالأوساط الحقوقية واليسارية على الصعيد الوطني وعبر العالم والعمل على صياغة البرامج النضالية لتعزيز حركية المجتمع المطابقة للتقدم وطرح البدائل وصياغة الشعارات الملائمة لكل مرحلة في اتجاه تعزيز المكتسبات والحرص الجماعي على مراكمتها وصيانتها. وسيكون من الضروري، في هذا الصدد، إبداع آليات الاستشراف والاستباق، انطلاقاً من التحليل الملموس للواقع الملموس والإصغاء لنبض المجتمع وتعبيراته.

  • تدقيق علاقتنا مع المسألة الدينية، والرد على الذين يتهمون اليساريين بمعاداة الإسلام ومحاربة التدين ونشر الإلحاد وإنكار الحق في الإيمان، وتقديم المزيد من الإيضاحات التي تهم منظورنا في التعامل مع الدين الإسلامي ومفهوم الدولة المدنية.

لقد ظهر، من خلال الممارسة العملية في الميدان، أننا محتاجون إلى التأكيد على عدم وجود تعارض بين انتمائنا الديني وانتمائنا اليساري، وأن ما نرفضه هو نوع من التأويل المتحجر للنص الديني، وأساسًا مع التوظيف السياسي للدين واحتكاره، وعلى أننا دعاة احترام حرية المعتقد واحترام كافة الأديان المتعايشة في الفضاء المغربي، وأننا نخوض معركة للتنوير والحداثة، وهي معركة مفتوحة أمام مساهمة علماء الدين المتنورين، وتستهدف في الأصل، استئناف جوانب من المشروع الفكري لعلماء النهضة الذي انطلق في القرن التاسع عشر.

  • الجواب على سؤال فشل المشروع الرامي إلى تحقيق الانتقال في أغلب البلدان التي عرفت انتفاضات عارمة في إطار ما سُمِّيَ بالربيع العربي.

نجحت “الثورات” في إسقاط أنظمة عاتية، ولكنها لم تنجح في وضع البلدان المعنية على طريق الديمقراطية. هل هناك عوامل موضوعية تفسر هذا الفشل أم أن الأمر، في الأصل، يتعلق بخدعة أو بمؤامرة محبوكة لإلقاء بلداننا في أتون الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والتقسيم وانعدام الاستقرار؟

ولماذا لم تستطع حركة 20 فبراير اجتذاب الكتلة الحرجة رغم ما لعبته من أدوار هامة، ولماذا انتهت إلى التراجع والخفوت بعد لجوء النظام إلى وصفته الثلاثية المتمثلة في الدستور والانتخابات و”التناوب الثاني”؟

  • تأكيد القرار المتعلق بعقد المؤتمر الاندماجي المفضي إلى تقديم عرض حزبي سياسي جديد، وفق اليومية والمساطر التي تحددها الهيأة التقريرية لفيدرالية اليسار الديمقراطي وما ينص عليه القانون التنظيمي للأحزاب (2011).
  • إطلاق العد العكسي للانتخابات، وذلك انطلاقًا من أن التحضير للانتخابات يجب أن يبدأ من الآن، ويجب أن يستخلص الدروس من مجريات ونتائج انتخابات 2015 و2016.

علينا أن ننطلق من كون قرار خوض الانتخابات، قائما، فعلاً، وأننا سنخوضها، دوماً، إلا إذا حصل طارئ استثنائي مادام الأصل هو المشاركة، وأننا سندخلها برمز الرسالة وليس برمز آخر، وأننا نريد أن ندخل بها عهد الانتقال إلى موقع جديد في الحلبة المؤسسية، ونغادر وضع التيار ذي التأثير المحدود.

  • ترسيخ الصلات التي أصبحت تربطنا كحزب مع بعض قطاعات المجتمع المدني، ومع عدد من المثقفين والرموز الأكاديمية والفكرية والفنية، وتحويلها إلى صلات قارة للأخذ والعطاء وللحوار الممأسس والتشاور المستمر ولإعداد وتنفيذ مشاريع مشتركة.
  • استخلاص الفوائد المرجوة من التطور الكمي، الذي حصل على مستوى العضوية الحزبية، في الفترة من 2015 إلى 2017، والذي نجم عن الالتفاف الذي جرى حول مرشحينا وخطابنا، خلال الحملة الانتخابية، وعن الدور الذي لعبته الأمينة العامة في إيصال أفكارنا إلى جزء مهم من الرأي العام وتعبئته خلف أهدافنا وتوجهاتنا.

يتعين إدماج الطاقات الوافدة والاستفادة من قدراتها ومؤهلاتها وتمكينها من أخذ مكانها في الهيكلة الحزبية، والحرص على تحقيق التلاقح الخلاق والمنتج بين مختلف أجيال المناضلين.

  • تدقيق وتوضيح مفهوم الخط الثالث؛ فهذا الخط ليس اختيارًا ثالثًا بين الرأسمالية والاشتراكية، ولا علاقة له بخط طوني بلير، فنحن يساريون اشتراكيون يعيشون عصرهم ولكنهم فخورون بأفكارهم وقيمهم الإنسانية الرفيعة.

الخط الثالث يقوم على فتح أفق ديمقراطي جديد، في بلادنا، كبديل عن المشروعين اللذين أكَّدَا فشلهما، داخليًا وخارجيا (الاستبداد الرسمي – الخيار الإسلاموي الأصولي)، إنه خط الإصلاح الذي يعتمد رافعة تنويرية، ولا يُسَوِّقُ وهم الإصلاح بأدوات ومساطر الإفساد وبالتحالف مع المفسدين، وخط استيعاب المسؤولية المزدوجة للمناضلين التقدميين، أي مسؤوليتهم في التعبير عن القهر والاستغلال الذي تعيشه الجماهير وإسماع صوتها، ومسؤوليتهم، أيضاً، في الرفع من وعيها وعدم مسايرة الحس العام، عندما يقبل أو يستحسن بعض التصرفات المتخلفة. إننا لا نطمع في تحصيل أصوات انتخابية بتكريس الجهل والتأخر ومعاداة العقل.

والخط الثالث هو الخط الذي يرفض جعل المشاركة في المؤسسات هدفاً في حد ذاته، ويرفض فكرة الانشغال بحيازة أكبر حصة من المغانم الوزارية خدمة للحزب، حتى ولو كانت شروط ذلك لا تُمَكِّنُ من تحقيق تقدم على مستوى التطور السياسي في البلاد.

وإذا كان شعار الخط الثالث قد استُعمل، أكثر، في الحقل الانتخابي، فإن ذلك لا يعني أننا نعتبر هذا الحقل هو الحيز الوحيد للكفاح والفعل والصراع من أجل بناء مجتمع جديد وفرض انتصار الملكية البرلمانية. إن اعتمادنا استراتيجية النضال الديمقراطي يفيد وجود حرص دائم من طرفنا على الربط بين حقول النضال المختلفة وإدماجها في بوتقة واحدة متكاملة وشاملة.

  • تدقيق مفهوم ومساطر الانتقال الديمقراطي حسب تصورنا الحزبي. لقد ظهر من خلال النقاشات التي تعرفها الساحة المغربية، بين الفينة والأخرى، أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة شرح مفهوم الانتقال وفحواه وأبعاده باعتباره الأفق الذي يتعين أن يتجند لبلوغه كل الديمقراطيين المغاربة.

وعموماً، نحن ننطلق مـن تصور قريب مـن تصـور النواة الأصلية لحركـة 20 فبراير للانتقال المغربي.

بمناسبة انعقاد مؤتمرنا الوطني الرابع، نعيد التأكيد على أن الحزب الاشتراكي الموحد “يستمد مبادئه ومنطلقاته النظرية والسياسية من الرصيد الإيجابي للفكر الاشتراكي، والديمقراطية في جميع أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية والتنموية، والقيم العقلانية للحضارة العربية والأمازيغة والإسلامية التي تتجاوب مع الفكر الحديث في أبعاده الإنسانية والكونية، واعتماد الديمقراطية والحداثة كاختيار لبناء دولة الحق والقانون في إطار مجتمع تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة الكاملة والمساواة التامة بين المرأة والرجل.

يهدف إلى :

  • ترسيخ السيادة الوطنية على كامل التراب الوطني وتوطيد التمازج الاجتماعي ضد كل أشكال التمييز بين المواطنين والمواطنات.
  • إقرار الديمقراطية في الدولة والمجتمع، في شتى أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية والجهوية والتنموية، وذلك بتحديث النظام السياسي، والارتكاز على مبادئ العدالة والمساواة والتضامن واحترام الكرامة الإنسانية والرفع من المستوى المعيشي للمواطنين واحترام حقوقهم والعمل من أجل سلامة البيئة وحمايتها.
  • الدفاع عن حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا ومناهضة جميع الخروقات التي تطالها من طرف الدولة أو الأفراد أو الجماعات، ونشر مبادئها وتربية المواطنات والمواطنين عليها.
  • تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد المالي والإثراء غير المشروع.
  • توحيد جهود كل الديمقراطيين والتقدميين بما يخدم المصالح الحيوية للوطن والمواطنين والمواطنات.
  • تحقيق تنمية شاملة ومستديمة تستجيب لحاجيات المواطنين والمواطنات في التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
  • إشاعة وتنمية الثقافة الديمقراطية والتربية على مبادئها والتعريف بالحقوق والحريات الديمقراطية والحد من خرقها وانتهاكها.
  • تأمين الموارد الطبيعية للأجيال المستقبلية والحفاظ على التوازن البيئي.
  • إقرار المساواة الشاملة بين المرأة والرجل والنهوض بأوضاعها على كافة المستويات ومناهضة كل أشكال التمييز ضدها.
  • تأطير المواطنات والمواطنين وإشراكهم في تدبير شؤونهم العامة واحترام إرادتهم.
  • الاهتمام بقضايا الهجرة والمهاجرين ومناهضة العنصرية، والعمل على ضمان حقوق المهاجرات والمهاجرين في الوطن والبلد المستضيف.
  • المساهمة في تعزيز مقومات التكامل المغاربي عبر السعي لخلق وتمتين أسسه المادية والتواصلية لبناء وحدة مغاربية ديمقراطية بعمقها العربي والأمازيغي والإفريقي والمتوسطي في أفق تمتين المصير المشترك للبلدان المغاربية والعربية لتأسيس كيان ديمقراطي متعدد.
  • المساهمة في بناء نظام إقليمي مغاربي وعربي موحد على أساس ديمقراطي تراعى فيه الخصوصيات الإثنية بما يضمن الوحدة في التنوع.
  • المساهمة في بناء نظام عالمي، يستجيب لمصالح الأمم والشعوب في السلم والمساواة، والتوزيع العادل للخيرات والاستفادة المتبادلة من التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي والتواصل الإعلامي، وإقرار الديمقراطية في المنظمات والمؤسسات الدولية.
  • نصرة قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتطوير علاقات التعاون والتضامن، في إطار الاحترام المتبادل، مع القوى الديمقراطية والاشتراكية التي تعمل من أجل تقدم وازدهار الحضارة الإنسانية الكونية، والسعي إلى الإسهام في بلورة مقومات مجتمع عادل ذي آفاق اشتراكية”.

وبمناسبة انعقاد مؤتمرنا الوطني الرابع، نريد التأكيد، أيضاً، على مجموعة من التوجهات :

  • ينطلق الحزب الاشتراكي الموحد من وجاهة الحجج القانونية والتاريخية والثقافية التي تؤكد مغربية أقاليمنا الجنوبية.

إن الصحراء، المسماة في الأدبيات الأممية بالصحراء الغربية، هي جزء لا يتجزأ من التراب المغربي، ونحن، هنا، نتقاسم المشاعر ذاتها والرؤية ذاتها مع الأغلبية الساحقة للمغاربة.

ونعتبر أن “قضية الصحراء” هي مشكل مفتعل أفرزته حسابات إقليمية، وأصبح يمثل اليوم عقبة في وجه تحقيق مطمح سكان المنطقة المغاربية في الوحدة، وساهمت في استفحال المشكل، سياسة النظام المغربي الذي فضل تجاهل القيام بواجباته حيال استمرار استعمار الصحراء، بعد استقلال المنطقة الشمالية من المغرب، وفَضَّلَ البحث عن أدوات تثبيت حكمه القمعي وخدمة مصالحه كنظام سلطوي.

ندعو الديمقراطيات والديمقراطيين، في المنطقة المغاربية، إلى تكثيف الجهود والمبادرات لتحسين أجواء العلاقات بين دول وشعوب المنطقة، وتحقيق انفراج في هذه العلاقات وخاصة من خلال فتح الحدود المغربية الجزائرية وإفساح المجال للطي النهائي لملف الصحراء عبر تفعيل الحكم الذاتي في إطار انتقال ديمقراطي شامل وحوار مع الشباب الصحراوي في أفق الوحدة المغاربية المنشودة.

إن موقف الحزب الاشتراكي الموحد ثابت وواضح من القضية الوطنية وهو بذلك مستعد للدفاع عن الوحدة الترابية، على كافة الواجهات. ومن هذا المنطلق جاءت المساهمة الدبلوماسية لقيادة الحزب في حل المشكل مع السويد إثر الخلاف الدبلوماسي الذي حصل بين البلدين حيث كانت فيه القضية الوطنية هي المستهدفة بالأساس.

في هذا الباب يقترح الحزب تنشيط أدوات الدبلوماسية الشعبية التي يكون عمادها الشعور والحس الوطني المؤطر سياسيا والمستوعب لقيم العصر ومرجعيته الحقوقية، هذا طبعا إلى جانب دبلوماسية الدولة المعهودة والتي أظهرت محدوديتها وفي كثير من الأحيان ارتباكها وتناقضها. هذا، دون أن ننسى وجود أجزاء أخرى من التراب الوطني لازالت مستلبة ولابد من تحريرها مستقبلا (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية).

  • يعتبر الحزب الاشتراكي الموحد نفسه جزءًا من التيار التقدمي العالمي الساعي إلى إنجاز التحول المجتمعي الضروري الذي يضمن طي صفحة من تاريخ المجتمعات متسمة بدونية وضع المرأة وبظاهرة التمييز بسبب الجنس، وتحقيق المساواة الفعلية الكاملة بين الجنسين، وتمتيع المرأة بكافة حقوقها، والتحرر من أغلال النظام الأبوي.

ينطلق الحزب من ضرورة إعمال خطة التمكين و”التمييز الإيجابي”، مرحليًا، في أفق المساواة والمناصفة، ويرفض كل أشكال تشيئ المرأة وكل مظاهر العنف والتبخيس والتحقير والتحرش التي تتعرض لها، ويتبنى المنظور الشامل لمقاربة النوع.

ويسجل الحزب أن أي تحسن في مضمون المقتضيات القانونية المتعلقة بالمرأة لن يكفي، إذا ظلت الوضعية الاقتصادية للنساء المغربيات على ما هي عليه ولم يَتَمَكَّنْ من حيازة استقلاليتهن المادية، ويخوض معركة ضارية لتفنيد الأطروحة التي تعتبر أن الخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا تبيح الانتقاص من الحقوق المخولة لكافة نساء العالم وتعريضهن لأنواع شتى من الحيف.

  • وبالنسبة إلى قضايا الهجرة، يجب، من جهة، أن نميز بين نوعين من الهجرة :

الهجرة القسرية، أو شبه القسرية، وهي تهم جحافل الشباب العاطل الذي أُجبر على الهجرة للبحث عن لقمة العيش، أو عن ظروف مواتية للعمل والإنتاج. لذلك يتعين، في هذا الباب، توفير الشروط التي تؤمن لسائر المغربيات والمغاربة ضمان فرص الشغل والتمتع بحق العيش الكريم في وطنهم، وخلق شروط ملائمة لاحتضان الطاقات الوطنية.

أما الهجرة الطوعية فتكون بغاية السياحة والتعليم وتطوير المهارات والتمثيل الدبلوماسي للبلد والمشاركة في المباريات والمنتديات والأنشطة المقامة بالخارج. وهذا النوع من الهجرة يجب تشجيعه للاستفادة من تجارب الآخرين في مختلف المجالات وتبادل الخبرات والمعارف والاجتهادات وضمان حوار الحضارات والثقافات.

ويجب، من جهة ثانية، التأكيد على أن التزام الدولة بتتبع أحوال مواطنيها والاهتمام بمصيرهم يظل قائماً حتى ولو كانوا متواجدين في أبعد نقطة عن بلدهم، ولذلك لا يجب النظر إلى المهاجرين كمجرد مصدر لموارد تتغذى منها ميزانية بلدهم الأم، بل يجب النظر إلى مغربيات ومغاربة الخارج باعتبارهم مواطنين ومواطنات بالمهجر، وتمتيعهم بحق التصويت والترشيح للبرلمان، ومواكبة أوضاعهم، والمساهمة في حل مشاكلهم حيث هم وحين يدخلون أرض الوطن، وتحسين الخدمات المقدمة إليهم من طرف القنصليات والتمثيليات المغربية في الخارج، والتدخل لدى سلطات البلدان التي يقيمون فيها لكي توفر لهم أكثر ما يمكن من وسائل الحماية ضد التعسفات والعنصرية، ودمقرطة الهياكل الممثلة لهم.

وتزداد مشاكل الهجرة حدة، بالنسبة إلى المغرب، اليوم، بسبب عدة عوامل منها :

  • تزايد النزاعات والحروب والهجرة المناخية.
  • تزايد الأعمال الإرهابية التي يتورط فيها أفراد من أصول مغربية، في البلدان الأوربية.
  • تزايد حالات استقرار مهاجري جنوب الصحراء الذين كانوا يعتبرون المغرب بلد عبور إلى أوربا.
  • انتعاش شبكات التهجير والاتجار بالبشر والأعضاء والرقيق الأبيض وتكثيفها لوسائل الاقتناص والاستدراج الإلكتروني والنصب والتحايل والاستغلال والعبث بحياة وسلامة الضحايا.

ويطرح كل ذلك ضرورة مضاعفة التعاون الدولي، والتقيد باحترام حقوق الإنسان وخاصة حقوق المهاجرات والمهاجرين، والعمل على محاصرة خطاب الكراهية حيالهم، وإيقاف نزيف هجرة الأدمغة، ورفض تحويل بلادنا إلى دركي لأوروبا، ومضاعفة مجهود محاربة الشبكات العاملة في مختلف مجالات الهجرة السرية.

  • الشباب، في كل المجتمعات، يمثل ذخيرة وخزانا للطاقة الإيجابية، والمورد الأول للثروة، وبؤرة الاهتمام الأساسية التي يتعين أن تدور حولها البرامج والسياسات العمومية، فالعناية بالعنصر الشبابي تُمَكِّنُ المجتمعات من تأمين مستقبلها.

ولهذا، فإننا نناضل من أجل ضمان كافة حقوق الشباب في التكوين والتأهيل والتربية والتنشيط الثقافي والرياضي والفني، وتوفير الوسائل التي تسمح بتحرير طاقاته وإبراز قدراته وتحفيزه على الإبداع والمشاركة والعطاء.

لقد حاول النظام تعطيل طاقة النقد لدى الشباب، وصرفه عن الاهتمام بقضايا الشأن العام، وتأطيره إيديولوجيا خدمة للسكون والاستمرارية، ومحاربة تنظيماته المدنية المستقلة، ونشر تصور مفزع عن السياسة الممارسة باستقلالية؛ ولكن حركة 20 فبراير أكدت أن هناك طليعة شبابية مغربية تعتبر نفسها معنية بالمساهمة في محاربة الاستبداد والفساد وفتح أفق الانتقال إلى الديمقراطية، واستبدال نظام الرعية بنظام المواطنة. وسقطت أطروحة عزوف الشباب عن السياسة.

وتقع على عاتق الحزب مهمة حفز الشباب على عدم الاقتصار على الحلول الفردية للمشاكل، واعتماد منطق العمل من أجل حلول جماعية، وزرع الثقة لديه في التغيير، والإنصات إليه، والتجاوب مع تطلعاته، ومساعدته في تجاوز آثار الصدمة التي خَلَّفَهَا، في نفوسه، تخاذل النخب واستسلامها.

  • المسألة الثقافية ليست ترفًا، إنها في قلب مشروعنا الديمقراطي. إننا نثق في الإنسان وفي عقل الإنسان وفي الطاقة الإيجابية الكامنة فيه، ونسعى إلى تنمية الاقتصاد، ولكننا نسعى أيضًا إلى تنمية الإنسان والرقي به وتمتيعه بحياة فكرية وروحية وجمالية مكتملة. مشروعنا الشامل يقوم على الاعتراف بالإنسان وتثمينه وتحرير طاقاته وتطوير قدراته واعتباره أهلاً للتمتع بالحرية، وتوسيع إدراكه لما حوله، وتحفيزه على العطاء والتدخل والمشاركة والكشف عن مواهبه.

الديمقراطية تهدف إلى رفع الوصاية عن الإنسان، وتنطلق من قاعدة المساواة بين البشر، وتكرس مبدأ الحرية والتعاقد. والتنمية تمثل مجالاً لقياس أهمية العلم والمعرفة والخبرة والاجتهاد في تدبير الأمور العامة من طرف رجال ونساء مخولين حق هذا التدبير من طرف عموم الشعب؛ لكن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لا يكفي وحده لحل المشاكل الثقافية، فهناك مجتمعات تمكنت من تحقيق مستوى عال من الرفاه المادي، وتوصلت إلى تخفيض معدل البطالة إلى أدنى مستوى، ومع ذلك ظلت تعاني من “أمراض” ثقافية؛ فرغم وفرة الإنتاج الصناعي والعلمي والفكري والإبداعي، فإن المواطن العادي يعيش في ظل نوع من الأَسْرِ أو الضغط الثقافي المفروض عليه من طرف ثقافة مجتمع الاستهلاك.

وبما أن الانتماء إلى اليسار يعني، عمومًا، تمتيع أكبر عدد ممكن من الناس بالحق في إشباع أكبر قدر ممكن من الحاجات المادية والمعنوية، فإننا نرى أن الحزب الاشتراكي الموحد، على المستوى الثقافي، مطالب بالعمل على تحقيق ثلاثة أهداف أساسية:

  • نشر ثقافة التنوير والحرية، وذلك بواسطة الدفاع عن قيم العقل والعلم والمعرفة والاجتهاد والإبداع والعمل، وترقية الذوق ومحاربة الاتكالية والخنوع والخرافة والجمود والماضوية.
  • مناهضة ثقافة مجتمع الاستهلاك، في الجوانب التي تكرس التسطيح والتنميط والفردانية، وتوسع الهوة بين الفئات والطبقات والشرائح والمهن والتخصصات، وتُحَوِّلُ الإنسان إلى ما يشبه الآلة أو السلعة وتدفعه إلى التسليم بحق النخب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تحديد مصيره بدلاً عنه وبدون مشاركته أو تدخله.
  • إشاعة ثقافة الربط بين الحقوق والواجبات؛ فهناك وظائف تمارسها الدولة، ووظائف يمارسها المجتمع، ووظائف يمارسها المواطن، فلا يجوز للمواطن أن يتقاعس عن القيام بوظائفه، بدعوى أن الطرفين الآخرين لا ينهضان بوظائفهما على الوجه المطلوب.
  • وقد تطور النقاش، حول المسألة الثقافية في المغرب، من فكرة الأحادية إلى تدبير التعددية، كما تطور من النقاش السياسي ذي الحسابات الظرفية، إلى التفكير التنموي الشمولي الذي يأخذ بعين الاعتبار علاقة الثقافة بالتنمية وبالمشروع الديمقراطي العام. وفي سياق هذا التحول، وبتأثير عوامل وطنية وإقليمية ودولية، أعلنت السلطة، لأول مرة، اعترافها بالمكون الأمازيغي لهوية المغرب، رافعة شعار “الأمازيغية مسؤولية وطنية لجميع المغاربة”، وهو ما نتج عنه فتح أوراش البحث العلمي المؤسساتي في مجالات اللغة والثقافة، وكذا انطلاق مسلسل إدراجها في الحقل المؤسسي، وخاصة في التعليم (شتنبر 2003) والإعلام (يناير 2006)، غير أن هذا الاعتراف السياسي النسبي -الذي كان منحصرًا في مرجعية خطاب أجدير- لم تتوفر له أية حماية دستورية إلى أن تَمَّ التنصيص على رسمية اللغة الأمازيغية، بمقتضى دستور 2011 الذي جاء بفضل المظاهرات التي قادتها حركة 20 فبراير التي رفعت، من بين مطالبها، شعار ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور. لكن حكومة بنكيران لم تقدم مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية إلا في نهاية ولايتها، أي يوماً واحدًا قبل انتخابات 7 أكتوبر 2016.

والحزب الاشتراكي الموحد -الذي طالب بترسيم اللغة الأمازيغية وبإحداث المجلس الأعلى للغات قبل صدور دستور 2011- يقارب المسألة الأمازيغية وقضية القانون التنظيمي اعتمادًا على أربع مرتكزات :

أولاً : إن تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، بإدراجها في مختلف قطاعات الحياة العامة، مفروض أن يَتِمَّ في إطار مسلسل “مصالحة وطنية” يحقق من خلالها المغاربة تصالحاً مع جزء من ذاتيتهم الجماعية ويبلورون اعترافًا ملموسًا بجزء من كيانهم.

ثانيًا : إن اللغة الأمازيغية هي ملك لكل المغربيات والمغاربة قاطبة وبدون استثناء، ويعني ذلك أن الأمازيغية مسؤولية الكل وألا تناقض بين المكون الأمازيغي والمكون العربي لهويتنا.

ثالثا : إنه من غير المنطقي أن يحصل تراجع عن المكتسبات التي تحققت، خلال العقد ونصف الأخير، في مجال الأمازيغية والسياسة الوطنية المتعلقة بتدبير التنوع اللغوي والثقافي، عملاً بمنطق التراكم الإيجابي الذي يسمح بالتطور والنهوض.

رابعا : إنّ اللغة الأمازيغية أساسية لإنجاز الانتقال نحو الديمقراطية في بلادنا، حيث أنها ترتبط بالمشروع الديمقراطي العام ولا تنفصل عنه، بل لا يمكن تدبيرها، بشكل ناجح، إلا من منطلق المبادئ الكونية للديمقراطية، المتمثلة في المساواة والحرية والعدل واحترام الاختلاف والتعددية. والتدبير الديمقراطي للتعدد يجعل منه حاضنًا للوحدة وخادمًا لها.

ويُلاحظ، على العموم، أن مشروع القانون التنظيمي المقترح من طرف الحكومة، لا يلتزم بالمرتكزات المشار إليها ولا يترجم روح التشبع بالشعارات والالتزامات المُعْلَنَةِ باسم الدولة.

  • أثبتت تجارب البلدان التي، خرجت من التخلف، بأن هذا الخروج كان متوقفًا على عدد من الشروط الأساسية، وعلى رأسها شرط التوفر على تعليم معمم وجيد. وهكذا، فلا يمكن التقدم بدون حل مشكل التعليم، ونهوض الدولة بواجب ضمان تعليم عصري، مجاني، متاح للجميع، وذي جودة.

إن الشعارات التي يرفعها اليسار، بخصوص التعليم، لا تدخل في إطار المزايدة السياسوية، بل هي مداخل أساسية للتحول المجتمعي المطلوب، فتقدم التعليم ينعكس على مختلف مجالات الحياة اليومية للمواطنين.

ولهذا، ندعو إلى الاستثمار في حقل التعليم بدون حدود، وندعو إلى تعاقد مجتمعي لتحويل جزء من الاعتمادات المخصصة لمختلف القطاعات الأخرى إلى ميدان التعليم. وقد بادر ممثلا فيدرالية اليسار الديمقراطي، في مجلس النواب، إلى طرح تعديل بهذا الخصوص على قانون مالية 2018.

والحزب الاشتراكي الموحد يسجل حصول اعتراف جماعي بفشل منظومة التعليم في المغرب، ويدعو إلى محاسبة المسؤولين عن هذا الفشل، وتغيير مناهج ومنطق إعداد وتنفيذ الإصلاحات المتعلقة بالتعليم، وتحويله إلى أولوية حقيقية.

  • تُعَدُّ الصحة حقاً من حقوق الإنسان، ولم يعد الأمر يعني، فقط، عدم الإصابة بالأمراض المعروفة، بل أصبح يعني التوفر على الإمكانات الجسدية والنفسية والعقلية لضمان عيش جيد في شروط تليق بمقتضيات الحياة في القرن الواحد والعشرين.

لقد تلقى الحق في الصحة ضربات متتالية في المغرب، وتَحَوَّلَ إلى مجال يحكمه نوع من الطبقية السافرة. هناك تَخَلٍّ تدريجي للدولة عن القيام بواجباتها في ضمان التطبيب. ونحن نعتبر أن الدولة، في جميع الأحوال، لا يمكن أن تتخلى عن أدوارها الأساسية في توفير تطبيب جيد لعموم المواطنين، وفي معالجة التفاوتات الصارخة على المستوى المجالي والاقتصادي، المسجلة في ميدان الاستفادة من الخدمات الصحية، وفي تصحيح الاختلالات والممارسات المخالفة لأخلاقيات المهنة، وتعميم المراقبة الجدية والحكامة الدقيقة، وحماية المرضى من كافة أشكال النصب والاحتيال والاستغلال والتمييز.

  • لقد وصل تلوت الطبيعة وهدر طاقاتها إلى حد أصبح يهدد سلامة الشعوب وخاصة النامية منها، والتي لا تملك القدرة والإمكانيات لمواجهة أخطار تلوث البيئة وما ينتج عنها من أمراض وأضرار بالطبيعة وخيراتها المعيشية من موارد فلاحية وغابوية ومائية إلى جانب الجفاف والتصحر.

إن معضلة البيئة لم تعد تهم بلداً دون سواه، فهي اليوم مشكلة الإنسانية جمعاء لضمان تعايش كوني ملائم. ولذا، فان السياسة التي يلزم إتباعها لا يمكن حصرها في مستواها النفعي الإنتاجي المحض، بل يلزم أن تتعداه إلى مراجعة نوع تطور مجتمعاتنا الكونية على كافة المستويات. الأمر الذي يفرض مراجعة أنماط العيش والتعايش والإنتاج المتبعة لحد الآن. إن مفهوم البيئة يهم كل ميادين المعرفة وكل مجالات الإنتاج، لذا أصبح من الضروري إدخال التربية البيئية في كل مجالات الحياة وتربية الناشئة وفق مبادئ الحفاظ على البيئة مع تغيير أسلوب حياتنا من أكل وشرب واستهلاك وإنتاج .

التراجع الذي عرفه اليسار في بعض البلدان كان ناجماً عن التجربة السيئة لأنظمة المعسكر السوفياتي، واعتماد أشكال تنظيمية يغلب عليها الطابع البيروقراطي، وما رافق ذلك من هجوم إيديولوجي حاول تبخيس المكتسبات التي جنتها الإنسانية عبر بوابة الفكر الاشتراكي، وحصول تحولات متتالية في العالم، لم يكن اليسار موفقاً دائماً في فهمها وإدراكها وتحليلها، وتأخره في مجال إيجاد الأجوبة الملائمة عن أسئلة الواقع المتغير.

ومع تراجع اليسار، بدأنا، في الآونة الأخيرة، نلاحظ نمو الشعبوية واليمين المتطرف.

عندما تسود الأزمة وتستفحل، يسهل تمرير الحلول التبسيطية إلى عقول الناس. الحلول التي لا تتطلب الكثير من الجهد والتحليل والتبصر. الحلول التي تُوهِمُنَا أن المسؤول عن الأزمة هو الآخر، وأننا يمكن أن نتغلب عليها بضربة قاضية عندما نُقْصِي هذا الآخر أو نجرده من حقوقه. المجهود الوحيد الذي تبذله الشعبوية هو شيطنة الآخر.

هناك من أنذر بنهاية الإيديولوجيا ونهاية الاشتراكية بسبب انهيار المعسكر الشيوعي، والطفرة الاقتصادية الرأسمالية، قبل لحظات الأزمة، والعولمة وما يرتبط بها من تنميط اقتصادي واجتماعي، والضغط المتزايد للحاجات الواقعة على عاتق الدولة.

لكن الاشتراكية حية، وقد دخلت الترسانة الحقوقية من أوسع الأبواب، وأصبحت الدساتير تنص على بعض مقتضياتها التطبيقية، وتنقل بعض شعارات الاشتراكيات والاشتراكيين إلى مصاف القواعد الدستورية الكبرى. لقد ظهر أن بعض أفكار الاشتراكية أصبحت ضرورية للعالم، واحتاجت إليها الرأسمالية لتجاوز أزماتها.

إن كوارث التهميش والفقر والاستغلال وتشييء الإنسان وتدمير البيئة والتفاوتات الصارخة التي تزداد يوماً عن يوم، بين الفئات والشرائح داخل المجتمع الواحد وبين البلدان والمجتمعات، تؤكد الحاجة إلى أدوات إجرائية للحد منها، وهو ما تطالب به منظمات إنسانية وهيئات مدنية وحركات اجتماعية.

طبعاً، لم يعد من المنطقي أن تحمل الاشتراكية نفس المعنى الذي كان قائماً في القرن 19 حيث كانت الطبقة العاملة تعيش أوضاعاً أشبه بالعبودية، وكان الأمر يتطلب تغيير كثير من الأشياء لتحريرها. اليوم يُعْتَرَفُ للعامل، في عدد من الدول، بجملة من الحقوق التي تحمي مستقبله وأبناءه (التأمين الاجتماعي – العدالة الاجتماعية – الضريبة التصاعدية – المدرسة العمومية المجانية)، وهناك مطالبات مستمرة بالمزيد من خدمات الدولة الراعية، وخاصة في مجالات الصحة والتعليم.

الاشتراكية اليوم لم تعد هي التدخلية المطلقة والحمائية المطلقة ووصاية الدولة المطلقة، بل هي رفض الليبرالية المتوحشة والعولمة المتوحشة والعصبية الوطنية والتنمية الاقتصادية بدون تنمية اجتماعية. ألد أعداء الاشتراكيين، اليوم، هي الليبرالية المتوحشة، ومعركتهم ضدها تتحول اليوم إلى معركة أساسية، لأن الليبرالية المتوحشة تحول البشر إلى عبيد لدى الشركات متعددة الجنسيات، ولا تراعي الحقوق الدنيا للشغيلة، وتتحايل على القوانين والمساطر الجنائية، وتنهب خيرات بلدان العالم الثالث عبر تحويلات مالية غير مشروعة، وتحويل الأسواق المالية إلى كازينوهات للمضاربات واستيطان الجنات الضريبية والتهرب من الواجبات..إلخ.

الاشتراكية، اليوم، تقدم الحلول، ولا تكتفي برفع الشعارات، واكتسبت، مع الزمن نوعاً من الحس العملي.

الاشتراكية اليوم، تؤكد تصالحها التاريخي مع الأفكار الحقوقية الكبرى للثورة الفرنسية.

الاشتراكية، اليوم، هي ديمقراطية مدفوعة إلى مداها الأبعد، حيث يستطيع الكادحون، وعموم الجماهير الشعبية، جعلها أداة لخدمة مصالحهم، وهي بحث حثيث عن طرق مد الناس بالوعي والوسائل التي تجعلهم يستثمرون حقل الديمقراطية من أجل التحويلات المجتمعية الضرورية.

الاشتراكية هي سياسات عمومية في خدمة الإنسان، أينما كان، فيهمنا مصيره ما دام يقتسم معنا رقعة العالم. وهي تعلمنا فن العيش الرفيع مع الآخرين في العالم، فلا يمكن أن نَتَدَبَّرَ مصالحنا، هنا، بما يهدر مصالح الناس، هناك. وهي تربط التنمية الاجتماعية بالتنمية الاقتصادية، فهذا الربط ليس “طبيعياً” ولا يمكن أن يجري بصورة تلقائية، كما يريد أن يوحي بذلك دعاة الرأسمالية. وهي ترفض تسييد منطق السوق المتوحش والوجه الفوضوي في العولمة ضداً على إرادات الشعوب ومصالحها. وهي تحافظ على فكرة التخطيط لضمان رؤية استراتيجية في مجال الاقتصاد والاجتماع. وهي ليست مجرد التنصيص على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، بل هي، أيضاً، توفير الوسائل والآليات التي تسمح للمواطنين بحسن الإفادة العملية من تلك الحقوق.

الاشتراكية، اليوم، هي الانطلاق من أن الدولة هي المسؤول الأول عن إنشاء وتدبير مرافق الخدمات الأساسية (التعليم والصحة والماء ووسائل النقل الكبرى). وهي رفض الخوصصة المتخفية التي تبدأ بتدمير وإفقار القطاعات العمومية، بشكل ممنهج، بطريقة يصبح معها الإقبال على خدمات القطاع الخاص أمر واقعاً وضرورة عملية لا محيد عنها.

الاشتراكية، اليوم، هي الاقتناع بأن دور الدولة يظل ضرورياً، في الاقتصاد، حتى لا يَتَغَّولَ السوق، فلا بد دائماً من حد أدنى من الضبط. وهي التعايش الثلاثي بين القطاع الخاص والقطاع العام والقطاع المختلط، ولكل دوره ومجالاته المحددة على ضوء سياسات عامة تقررها الشعوب. وهي أن الاعتراف بدور القطاع الخاص لا يعني إفراد ذات المعاملة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، وللمقاولات الكبرى. وهي أنسنة الاقتصاد وجعل إسعاد الإنسان، أولاً، هدفاً لكل السياسات والبرامج، أي أن الاشتراكية تجعل من الإنسان أولوية. وهي تعمل على تحويل قيم التضامن والعدل والمساواة إلى إجراء وسياسات ملموسة يمكن التثبت من آثارها باستخدام معايير علمية.

اليساريات واليساريون، اليوم في العالم، واعون بأهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني، على الصعيدين المحلي والعالمي، لتطوير الديمقراطية وحماية الحقوق الأساسية للمواطنات والمواطنين وتمريسهم على المشاركة في صنع مصير مجتمعاتهم حتى يحدُّوا بذلك من نفوذ رأس المال في توجيه الحياة السياسية والمؤسسية. ولهذا تُمَثِّلُ حركة المنتديات الاجتماعية العالمية واحدة من الأدوات الأساسية للمساهمة في بناء عالم أفضل لجميع سكان الأرض، وذلك بجانب الحركات البيئية والحقوقية وتيارات العولمة البديلة.

اليساريات واليساريون يدركون أهمية الوظيفة الإستراتيجية التي تباشرها النقابات العمالية في المجتمعات المعاصرة، ولهذا فهم يحرصون على تأسيسها وتطوير أدائها وتوسيع إشعاعها وتعميق حضورها ونفوذها ودعم نضالاتها والارتباط الدائم بها، ويسعون إلى تحقيق أكثر ما يمكن من صيغ التضامن والتلاحم النضالي الوحدوي في الميدان.

اليساريات واليساريون يقدرون أهمية عدد من المطالب الاجتماعية، المتعلقة بتحسين أحوال المرأة وتحقيق المساواة وضمان المشاركة المنصفة في مراكز القرار، وكفالة الحق في التعليم والصحة وتوفير الحد الأدنى الاجتماعي لكافة المواطنات والمواطنين، التي لا يمكن الخروج من التخلف دون توفيرها.

اليساريات واليساريون، اليوم، عندما يناضلون من أجل تخفيض ساعات العمل، فإنهم يريدون بذلك إسعاد الإنسان وتمكينه، أكثر، من فرص مراقبة الشأن العام وتتبع أحوال مجتمعه والتدخل لتوسيع دائرة الحقوق والسعي لإشباع المزيد من الحاجيات الذاتية وإسعاد الآخرين.

اليساريات واليساريون، بصورة عامة، يُقَدِّرُون حيوية النضال الذي يخوضونه، على أكثر من صعيد، من أجل ضمان المساواة في الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية بين الرجال والنساء.

اليساريات واليساريون الحقيقيون يولون قضية الأخلاق في السياسة أهمية قصوى، وهذا يمثل إحدى النقط الجوهرية التي تميزهم عن أهل اليمين الذي يستهينون بالمعطى الأخلاقي بذريعة خدمة البعد العملي والبراغماتي في السياسة.

ونحن، كيساريات ويساريين مغاربة، لسنا مستعدين للتنازل عن الاحترازات الأخلاقية التي نتمسك بها، وخاصة في المجال الانتخابي، حيث إننا سنواصل رفض ترشيح أشخاص سبق لهم أن ترشحوا أو تحملوا المسؤولية في أحزاب إدارية، أو سبق أن استعملوا وسائل لا نظامية في السياسة أولا تتوفر فيهم شروط الالتزام الأخلاقي.

لقد رفضنا –وسنرفض، دائمًا- فكرة التوفر على عدد وافر من أعضاء مجلس النواب بواسطة تجاهل الشروط الأخلاقية في المرشحين؛ علماً بأن أي حزب من الأحزاب، في المغرب، لا يمكن أن يحافظ على استقلاليته حيال النظام إذا تورط أعضاؤه في ملفات الفساد، وإذا أضحى يجري وراء المقاعد فقط ويفتح ذراعيه للأعيان والمفسدين.

تستند رؤيتنا الاقتصادية، في الإجمال، إلى العناصر الكبرى الآتية :

  • “ربط القرار الاقتصادي بصناديق الاقتراع، بما يضمن ربط المسؤولية بالمحاسبة في ظل ملكية برلمانية.
  • إعادة الاعتبار للدور الاقتصادي للدولة في ما يتعلق بالتخطيط والاستثمار ودعم الطلب الداخلي وحماية الإنتاج الوطني والحفاظ على مبدأ التدبير العمومي للقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية ومراجعة سياسة الخوصصة والتدبير المفوض التي اعتُمدت سابقاً.
  • بناء اقتصاد وطني قوي تنافسي وتضامني، وخاصة من خلال خلق شروط إقلاع صناعي مستند إلى البحث العلمي والمعرفة وموجه أولاً وقبل كل شيء، إلى تلبية الاحتياجات الداخلية وتثمين الإنتاج الفلاحي وتجنيب البلاد مخاطر تقلبات المناخ والأسواق الخارجية.
  • إخضاع التوازنات الماكرواقتصادية لمتطلبات التوازنات الاجتماعية والبيئية.
  • حل مشكلة تمويل النشاط الاقتصادي، بواسطة خلق شروط منافسة حقيقية بين الأبناك وتحقيق إصلاح جبائي يضمن العدالة الضريبية.

إعادة التفاوض بشأن مضامين وبنود الاتفاقيات التجارية بما يضمن المصالح الوطنية”.

هناك فئات اجتماعية متعددة يمكن أن تَجِدَ مصلحتها في نجاح مشروعنا وانتصاره، وهي الفئات التي يسعى الحزب الاشتراكي الموحد إلى احتضانها والارتباط بها، وحشدها في تكتل شعبي حي، يضم كل الفئات الاجتماعية التي تريد طي صفحة الاستبداد والانتقال إلى الملكية البرلمانية، حيث تسود مقومات الديمقراطية ودولة القانون، وتُحترم الحقوق والحريات، وتُرسى أسس الدولة المدنية، وتُصان حرية المعتقد، وحيث تُضمن قواعد العدالة الاجتماعية الحقيقية، وتُستبعد مختلف أشكال الريع والفساد.

وتدخل ضمن مكونات التكتل الشعبي المنشود، الفئات الاجتماعية التالية :

  • العمال والكادحون، نساءً ورجالاً، التواقون إلى ضمان استقرار الشغل، وتوفير الحق في التأمين الاجتماعي وفي أجور تضمن عيشاً لائقاً لهم ولأسرهم، وحماية الحريات النقابية وفرص الترقية الداخلية والتكوين المستمر، وإلغاء علاقات التبعية الشخصية وتعويضها بعلاقات قانونية وتعاقدية تحترم إنسانية العامل، في مقاولات قائمة على قواعد عمل عصرية وتلتزم بضوابط القانون وتحمي المرأة العاملة من التمييز والتحرش.
  • المعطلون، نساءً ورجالاً، من ذوي الشهادات وغيرهم، التواقون إلى ضمان لقمة العيش في ظروف تحفظ الكرامة والمستوى اللائق للحياة، والمتشبتون بالحق في تنظيم أنفسهم وفي خوض النضال السلمي من أجل التأثير في السياسات العمومية وحفزها على معالجات أكثر جدية لآفة البطالة وتوفير فرص الشغل الضرورية واحترام مبدأ المساواة أمام القانون، وكفالة التعويض عن البطالة، والضغط من أجل محاسبة المسؤولين عن تبديد الثروات وإساءة توزيعها وإهدار الطاقات وتبذير موارد الدولة وتعميق التفاوتات في المداخيل والإمكانات.
  • الموظفون العموميون، نساءَ ورجالاً، التواقون إلى إصلاح الإدارة وسيادة مقتضيات الحكامة الجيدة في مختلف المرافق الحكومية، وقيام العدالة في أنظمة الأجور، والحماية من التعسفات والشطط والأوامر الشفوية المخالفة للقانون، وتوفير المرافق الاجتماعية وهياكل الراحة والاستجمام، وتثمين الجهد والإبداع والتقدم، واستئصال ثقافة المحسوبية والتدخلات، وضمان حقوق متكافئة في الترقية والتأهيل، وإسناد المسؤوليات بناء على معايير موضوعية، وحق الموظف في التنظيم النقابي، وتوفير المعلومة للمرتفقين وعموم الرأي العام، وحسن استقبال المواطنين، وجودة الخدمات وسرعة إنجازها، وعدم التمييز بين الموظفين والموظفات بخصوص فرص الترقي.
  • الفلاحون الصغار والمتوسطون، نساءً ورجالاً، التواقون إلى ضمان فك العزلة عن العالم القروي، وتزويده بالتجهيزات الأساسية والبنيات التحتية الضرورية، ومؤسسات التعليم والتطبيب، والرفع من الاستثمارات العمومية فيه، ووضع برامج لمحاربة الفقر ومواجهة الجفاف، وتمكين الفلاحين من حيازة المعارف الجديدة والرفع من قدراتهم الإنتاجية، وتعميم نظام التعاونيات والجمعيات ومؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وإسماع صوت الفلاحين وإشراكهم في وضع البرامج والخطط التي تهمهم، ودعم الجمعيات التنموية العاملة في المجال القروي وتعزيز حضورها، ووضع برامج هادفة إلى تنويع الإنتاج واستكشاف مجالات إنتاج جديدة ذات مردودية أكبر، ودعم المقاولات الصغرى والمتوسطة في القطاع الفلاحي، وإعادة هيكلة منظومة التسويق وتحريرها من تضخم القنوات والوسطاء، ومحاربة المضاربين، وإنشاء المزيد من مؤسسات البحث العلمي في المجال الفلاحي، وتنويع وسائل الحفاظ على الماء وترشيد توزيعه، وتعميم المكننة وتطوير أدوات وطرق الإنتاج، وتغيير طرق التعامل الإداري في البادية وإلزام الإدارة باحترام المرتفقين ومعالجة ملفاتهم بالسرعة والنجاعة المطلوبتين وتفهم حاجاتهم ومطالبهم في إطار القانون.
  • نساء ورجال الأعمال الصغار والمتوسطون غير الريعين، التواقون إلى سيادة القانون في مجال المال والأعمال وضمان التنافسية، والمناهضون للاحتكار وأنظمة الريع، والراغبون في تخليق الحياة التجارية والصناعية في المغرب والتخلص من آفات الافتراس والمحاباة المبنية على درجة القرب من السلطة، والملتزمون باحترام قوانين الشغل والحريات النقابية، والمنتجون للثروات، والمخالفون لمنطق الليبرالية المتوحشة والتبادل الحر الأعمى، والمتمسكون بحق نساء ورجال الأعمال في ممارسة حرية الرأي والتعبير ونقد السياسات العمومية، مثل جميع المغاربة، والرافضون لأساليب الضغط والتدخل والعقاب غير المباشر على المواقف والمس باستقلالية الأجهزة الممثلة لعالم المال والأعمال.
  • الحرفيون والصناع، نساءً ورجالاً، التواقون إلى الحصول على دعم الدولة لتعميم تنظيم الحرف واحترام شروط ممارستها، والراغبون في إسماع صوتهم والتجاوب مع مطالبهم ومدهم بالقروض الضرورية ومساعدتهم على ضمان التأمين الاجتماعي وتطوير ودمقرطة الهياكل الممثلة لهم.
  • رجال ونساء المهن الحرة التواقون إلى تطوير القوانين المنظمة لمهنهم، وإرساء أسس علاقة جديدة مع الإدارة، والحريصون على احترام الأخلاقيات المهنية.
  • الطلبة والشباب، نساءً ورجالاً، التواقون إلى بناء مغرب أحسن، والمتطلعون إلى التغيير والتقدم الاجتماعي، والمنفتحون على القيم الإنسانية الكونية، والرافضون للجمود والماضوية وتقديس كل ما هو قديم، والمناضلون من أجل الحق في التعليم الجيد والمجاني والمعمم والديمقراطي وفي التعبير والتربية المتكاملة والأنشطة الجمالية والإبداعية والرياضية والفرص المتكافئة للشغل والتأهيل المهني والتكوين المستمر ودعم المشاريع الخاصة.
  • المثقفون التقدميون، نساءً ورجالاً، التواقون إلى المشاركة في تقدم مجتمعهم، والناشرون لقيم التنوير والحرية والعقل والتقدم، والراغبون في وضع خبراتهم في خدمة شعبهم، والمناهضون لانتهاكات حقوق الإنسان ولجميع مظاهر الفساد والاستغلال والاضطهاد، والمحاربون للعادات الرجعية، والعاملون على ضمان انفتاح مجتمعهم على رياح التحديث وتحقيق تواصل إيجابي بناء مع العالم وسيادة روح التسامح والتعايش، والمنطلقون من أن الاعتزاز بالعناصر المشرقة في شخصيتنا الوطنية لا يتعارض مع تبني القيم الكونية والحريات المتعارف عليها في العالم.

والمفروض أن تدعم هذا التكتل، في مطالبه ونضالاته ومواقفه الكبرى، مختلف الحركات المواطنتية والتقدمية، وفي طليعتها الحركات النسائية العاملة من أجل مجتمع تُحترم فيه إنسانية المرأة، ومن أجل ضمان حمايتها من كافة أشكال الوصاية والتبعية والميز والتحقير والتحرش، وإقرار المساواة بين الجنسين، وضمان السعي الرسمي نحو المناصفة، والحقوق المتساوية في ميدان العمل وفي مجال تحمل المسؤوليات.

نعيش دورة تاريخية محكومة بخطر بيئي داهم، لا يمكن أن نترك مصيرنا بين أيدي المؤسسات المالية الدولية والمجمعات الصناعية الكبرى التي تريد أن تفرض قوانينها، لأنها منظمة بشكل جيد، على جماهير الشعوب التي لم تعد الديمقراطية التمثيلية الباردة بكافية لحمايتها.

إن الكارثة التي تنتظرنا في السنوات القليلة القادمة تهدد استمرار الجنس البشري، ولذلك فإن نضالنا، على المستوى الإيكولوجي اليوم، يروم إنقاذ الإنسانية بأسرها.

لابد، إذن من تكثيف أشكال الضبط الملائمة، باسم المجموعة الوطنية وباسم الهيئات الأممية (الاتفاقيات الدولية الحامية للبيئة).

إن التزامنا بالنضال من أجل التنمية المستدامة وحماية البيئة واحترام الالتزامات المفروضة على الإنسان، في هذا الشأن، وحرصنا، اليوم، على مضاعفة الاهتمام بقضايا البيئة لا تحركه دوافع تقليد الآخرين أو مسايرة موضة طارئة، إنه يقع في عمق اهتماماتنا وأولوياتنا الأصلية وجوهر مشروعنا، وهو في النهاية يمثل النتيجة المنطقية لكوننا جعلنا الإنسان في محور الاهتمام المركزي.

الجديد، اليوم، هو إبداع المزيد من الأدوات ووضع المزيد من البرامج.

صحيح أننا نعاين حالياً تبلور ثقافة جديدة أصبح لها طابع أممي، حقوقي، مُلْزِمٌ، يخترق كل التوجهات ويفرض نفسه على الجميع، ومع ذلك فنحن نجد في العديد من الأفكار العامة التي تستند إليها (الإيكولوجيا الاشتراكية) ما هو جدير بالاعتماد والتبني.

تعتبر الإيكولوجيا الاشتراكية أن نهج الرأسمالية هو الإنتاجية المفرطة بدون قيود، هذا النهج أوصلنا إلى نتيجة تهدد بقاء الإنسانية فالموارد تُهْدَرُ والبيئة تَتَلَوَّثُ، ولهذا فلا بد من حلول جذرية لمعالجة الوضع، استناداً إلى تحليل الآليات التي تقود إلى الأزمة وعدم الاكتفاء برصد المظاهر.

تقترح (الإيكولوجيا الاشتراكية) تكثيف وتوسيع دائرة الحوار وفضاءات التشاور المبني على التكافؤ والمساواة والمتحرر من الضغوط ، وترى ضرورة الالتزام بتحديد حجم الإنتاجية وأنماط الاستهلاك والحاجيات الحقيقية بما يطابق المصلحة الموضوعية لأجيالنا الحالية والمقبلة، والتخلي عن الكثير من القواعد التي فرضتها علينا الرأسمالية للعيش، والأخذ بنموذج جديد لتحديد معنى التقدم المنشود وعدم ترك المهمة للرأسمالية. هذا النموذج الجديد يُخْضِع الإنتاج والاستهلاك لمتطلبات حماية النظام البيئي.

ترى الإيكولوجيا الاشتراكية أن الجري نحو مضاعفة الربح إلى أقصى مدى ممكن، يؤدي إلى عرض إنتاجي ليس له حدود وتكثيف الإنتاج بالشكل الذي لا تستطيع الطبيعة تحمل النفايات الناتجة عنه والتي تُصَدَّرُ إلى بلدان الجنوب، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية.

وتثمن الإيكولوجيا الاشتراكية الدور الحيوي الذي يلعبه التخطيط البيئي، عبر الآلية الديمقراطية الواعية، في تأسيس الالتزام الجماعي ببناء نمط جديد من التنمية كفيل بجعل الإنتاج والاستهلاك والحاجيات تتحدد وفق المتطلبات الحقيقية للمنفعة الاجتماعية والبيئية.

وتنادي بضرورة مراجعة الأبنية والهياكل المؤسسية وضخِّ نفس جديد فيها، وبرفض خوصصة قطاع الخدمات العامة، وبخوض معركة ثقافية شاملة ضد نظم الدعاية والإشهار التي تكيف العقول والعواطف وتسُوق الناس إلى حتفهم وهو مبتسمون، وضد بعض التوجهات التي تكرسها منظمة التجارة العالمية.

نحن قوة تناضل من أجل الديمقراطية الحق.

ونعتبر أن هناك قواعد عامة للديمقراطية لا يمكن الاستغناء عن إحداها بدعوى الخصوصية.

الخصوصية تهم جوانب محددة حصراً، تُرِك للمجتمعات أن تختار، بصددها، بين أنظمة عدة (مثل شكل الدولة – نمط الاقتراع – مراقبة دستورية القوانين عن طريق الدفع أو الدعوى – برلمان من غرفتين أو من غرفة واحدة).

القواعد العامة تتمثل في السيادة الشعبية، وفصل السلطات، ووجود برلمان منتخب دورياً من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومفتوحة تضمن التعددية والحق في التداول وتمنح المعارضة حقوقاً كافية تمكنها من الوصول إلى سدة الحكم، والتنصيص على الحقوق والحريات الأساسية ومنح ضمانات ملموسة للاستفادة منها عملياً، واحترام مبدأ الشرعية وحكم القانون ومدنية الدولة وحرية العقيدة واعتماد نظام المواطنة.

“الثورة”، اليوم، بمعنى تغيير الفريق الحاكم والبرامج والتوجهات المعتمدة رسمياً في الدولة، تتم من داخل نفس الدستور.

طبعاً اليساريات واليساريون يُفترض أن يتعاملوا مع الديمقراطية بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يتعامل بها معها الآخرون (الليبراليات والليبراليون مثلاً).

اليساريات واليساريون يُفترض أن يكونوا أكثر ديمقراطية، فهم يعتمدون على نفس الآليات والقواعد الكلاسيكية المعروفة للديمقراطية، لكنهم يدفعون بها إلى أقصى مدى ممكن، وعلى مختلف المستويات.

هم أحرص على قيمة الحرية ومكانتها.

هم أشد الناس استنكاراً للتجاوزات والانتهاكات.

هم لا يكتفون بتبني الحقوق بل يعملون، باستمرار ومثابرة، على تمكين أكبر عدد من المواطنين من استثمارها وتفعيلها. يربطون بين الأهداف والوسائل، ويحاولون إعطاء الجماهير الوسائل لكي تُتَابِعَ ما يجري وتكون قادرة على التقييم والحكم والمبادرة والتدخل والمشاركة والحوار والتشاور.

هم يعملون على توسيع فضاءات الدمقرطة لتشمل فضاءات الإنتاج، أيضاً، والفضاءات المحلية والحياة الجمعوية.

هم يعملون على تحرير الديمقراطية من السياسات التي أَدَّتْ إلى وضع اقتصاديات عدد من البلدان تحت سطوة المؤسسات المالية الدولية وإملاءاتها المجحفة، وإلى تفاقم المديونية بشكل أفضى، في الكثير من الأحيان، إلى تعميق التبعية والتحكم وحماية مصالح الدائنين على حساب الشعوب وقوت وسعادة أبنائها.

وهم يبنون نمطاً من الأحزاب المعروفة بقدرتها على المساهمة، أكثر، في تعميق وحماية الديمقراطية وترسيخ أسسها وأركانها. وهو نمط من الأحزاب الفاعلة والحاضرة، يومياً، والتي تمثل، هي نفسها، فضاءات للتمرس الديمقراطي والتكوين السياسي العالي وإغناء تجربة الأعضاء وتوسيع آفاقهم الفكرية والمعرفية وتزويدهم بالمعلومة، واستقطاب أكبر قدر من المواطنين الذين تجمعهم رابطة حزبية عميقة وحَمِيَّةٌ نضالية وانشغال جماعي مستمر بتقدم مجتمعهم وازدهار بلادهم وبمستقبل أبنائهم.

النمط الحزبي اليساري نمط حي متحرك وكفاحي، تناضل أحزابه في واجهات وحقول مختلفة، ويرتبط مناضلوه ومناضلاته بالنقابات العمالية، ويؤسسون تعاونيات وهيئات مدنية ومراكز بحث ومنظمات للتربية والثقافية والتخييم، وينزلون إلى الشارع عند الضرورة، ويُبْدُون قدراً عالياً من الاستعداد لبذل التضحية من أجل أفكارهم ومن أجل الآخرين.

وهم يعتبرون بأن فكرة (الديمقراطية التشاركية) تمثل وصفة ضرورية لإغناء التجربة الخاصة للديمقراطية التمثيلية، وفتح آفاق جديدة لتعميقها وتصحيح اختلالاتها وتجذير حس المسؤولية والمشاركة لدى المواطنين.

اليساريات واليساريون المغاربة يسجلون بمرارة أن المغرب لم يخرج بعد من التخلف، وأن آفات الفساد والريع والبيروقراطية تحاصره من كل جانب وتصفد حركته وتدمي جسده المتهالك، وهم يعتبرون بأنه لا يوجد أي بديل عن الديمقراطية لمعالجة أسقام وعلل هذا الجسد، لأن الديمقراطية تتيح ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتسمح لنا بالخروج من الوضع الذي نعيشه، إلى الآن، وهو أن من يحكم لا يُحاسب ومن يُحاسب لا يحكم. الاحتراز المسبق الذي تقدمه الديمقراطية لتجنب مثل هذا الوضع المفارق هو ربط الحكم، أو القرار، بصناديق الاقتراع، أي أن من يحكم يجب أن ينتخبه الناس بكل حرية ويولونه أمر تدبير شؤونهم العامة باسمهم، ونيابة عنهم.

وبما أنه لا بديل عن الديمقراطية، فلا بديل، في نظام ملكي وراثي، مثل المغرب، عن الملكية البرلمانية لأنها صيغة التوفيق الوحيدة بين الطابع الوراثي للملكية وقواعد الديمقراطية.

وهذا يعني أن يمارس الملك أدوارًا رمزية وشرفية، ويترك، للفريق المنتخب، تدبير شؤون الحكم طبقاً لما تَمَّ التعاقد عليه مع الناخبين، مع إمكان تدخل الملك، استثناء، في ظرفية أزمة من أجل ضمان العودة المبكرة إلى الناخبين لحسم اتجاه حل الأزمة.

وبناء على ما سبق، لا نرى، في الحزب الاشتراكي الموحد، ضرورة للتصويت بنعم على دستور من دساتير بلادنا، إلا إذا تَضَمَّنَ القواعد المعروفة للملكية البرلمانية، بشكل واضح ولا لبس فيه، فبعد أكثر من ستين عاماً على استقلال المغرب، وبعد إصدار ستة دساتير، لم نستطع التوفر بعد على دستور يتضمن تلك القواعد؛ وهذا ظلم وإجحاف في حق المغاربة، لأنهم، مثل جميع أبناء شعوب الأرض، كانوا يستحقون الديمقراطية منذ 1956.

حل مشكلة النص الدستوري، لا يعني، طبعاً، حل مشكلة الديمقراطية برمتها، لأن هذه الأخيرة ليست فقط هي النص الدستوري، ولكن هذا النص يمثل ركناً أساسياً وجوهرياً في البناء الديمقراطي.

وإذا كنا مقتنعين بأن لا بديل عن الديمقراطية، فإننا نرى، أيضاً ضرورة التأكيد على أنه لا بديل عن الديمقراطية التي تُبنى بواسطة الأحزاب السياسية المستقلة عن الدولة، وأنه لا بديل عن مدنية الدولة وحرية العقيدة.

الأصل أن الأحزاب السياسية لا تكتفي بعرض برامجها والدفاع عن أفكارها واختياراتها، بل تصنع ذلك من أجل المشاركة في الحكومات لتطبيق برامجها، لأن الأحزاب ليست أندية فكرية أو مراكز للأبحاث. ولكن، في الحالة المغربية، يُلاَحَظُ أن هذه المشاركة لا تُمَكِّنُ الأحزاب من الأدوات التي تسمح لها بحكم البلاد وإدخال برامجها حيز التطبيق.

هناك ما يشبه “برنامج الدولة القار” الذي لا يتأثر برياح الانتخابات أو بإرادة الناخبين، ولهذا يجب التأكيد على أن المشاركة في الحكومة ليست مجدية إلا إذا جاءت في سياق تغيير شامل يُوَفِّرُ شروط نجاح الانتقال الديمقراطي.

المشاركة الحكومية التي تتجاهل برنامج الانتقال الديمقراطي هي مشاركة تقبل بالمزيد من تعليق وتأجيل الانتقال في انتظار ما سيحمله المستقبل، وهي أشبه بعملية انتحارية وقبول بالأمر الواقع واستسلام له.

المشاركة في الحكومة، إذن، بالنسبة إلينا، لا تتعلق، فقط، بعدد المقاعد النيابية التي نحصل عليها؛ بل تتعلق، أولاً وقبل كل شيء، بتدشين مسلسل انتقالي يُتَوَّجُ باستيفاء مقومات البناء الديمقراطي.

هذا المسلسل لا يمكن أن يكون مجرد شعار أو لافتة، أو رغبة ذاتية للمشاركين وحدهم، بل يتعين أن يُبنى على أرضية صلبة –يفرضها ميزان قوى جديد- وتترجم وجود إرادة سياسية للانتقال لدى الأطراف الأساسية للعبة.

هذه الإرادة السياسية لا تُستنتج من مجرد قبول الآخر بمشاركتنا، إنها تتمثل في التزام واضح بتبعات واضحة، لا يترك لأي طرف فرصة اللعب على الغموض من أجل التحلل من واجبات إنجاز مهام الانتقال وتنفيذ متطلباته.

الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكومات المغربية، تتصرف كما لو أن مشاركتها “عادية”، جاءت في سياق “عادي”، وفي بلد أكمل انتقاله الديمقراطي، وحَلَّ جميع مشاكل هذا الانتقال، بينما الواقع غير ذلك.

أية مشاركة حكومية، اليوم، ستكون مُطَوَّقَةً بواجبين اثنين :

  • واجب السهر على تطبيق برنامج الانتقال الديمقراطي، وفقًا لدستور الملكية البرلمانية (مهمة تأسيسية).
  • واجب السهر على تطبيق برنامج الحكومة لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المطروحة، كأية حكومة في بلد ديمقراطي ولكن بما يتلاءم مع اقتضاءات سيرورة الانتقال الديمقراطي الجارية، وطبيعة تشكيلتها “الانتقالية” الخاصة (مهمة تدبيرية).

المشاركة بدون إنجاز المهمة الأولى ليست مشاركة حكومية فعلية، بل هي مشاركة في التطبيع مع وضع قائم لا علاقة له بالديمقراطية، وقبول بقواعد اللعب المخزنية، وهي ستكون هجينة وصورية وفاقدة للمعنى، لأن تطبيق أي برنامج حكومي هو رهين بتوفر وسائل تطبيق البرنامج، وهي الوسائل التي لا تتوفر إلا في سيرورة انتقال ديمقراطي حقيقي.

إن خلافنا الأساسي مع الأحزاب “التاريخية”، التي لعبت في الماضي أدواراً أساسية في مواجهة الاستبداد، هو حول طبيعة علاقتها الحالية بالنظام وحول مشاركتها في الحكومة. لقد تَحَوَّلَتْ هذه المشاركة، لديها، إلى غاية في حد ذاتها، فهي تشارك من أجل المشاركة وتتعامل معها كمناسبة لتحصيل مكتسبات ذاتية وتوزيع غنيمة المقاعد. يمكن أن تترتب، عن هذه المشاركة، بعض التحسنات المحدودة في الأوضاع، ولكنها، في النهاية، لا تستطيع تجاوز كونها مشاركة إسمية في الحكومة وليس في الحكم.

تتطلب المشاركة الحكومية توفر العناصر التالية :

  • التزام الملكية الواضح بقبول الانخراط في مسلسل الانتقال إلى الديمقراطية التي تعني احتياز المُنْتَخَبِين لسلطة التقرير ووضع خيارات البلاد وبرامجها وربط المسؤولية بالمحاسبة على كل المستويات.
  • توفر دستور الملكية البرلمانية الذي يخول الحكومة وسائل تطبيق برنامجها، ويخلص الحياة المؤسسية المغربية من الازدواجيات التي تؤدي إلى حالة من عدم تحديد المسؤوليات وغموضها.
  • إفراز الانتخابات لأغلبية مستقلة عن “جهاز الدولة” وذات تمثل حقيقي للخيار الديمقراطي.
  • حصول انتخابات مُؤَسِّسَةٍ، حرة ونزيهة، متحررة من التدخل الإداري، وبعيدة عن وسائل الغش والتدليس وشراء الأصوات، ومتميزة بمشاركة الأطراف الأساسية في اللعبة السياسية وبموافقتها على مساطرها وإجراءاتها.

وفي جميع الأحوال، فإن أية مشاركة لحزبنا في الحكومة يتعين، من الناحية التنظيمية، أن تجري بناء على قرار يُتَّخَذُ في مؤتمر استثنائي خاص بذلك.

اليسار، عموماً، هو شجرة أنساب سياسية وفكرية تمثل العلمانية قاعدتها الأساسية.

العَلَمَانِيِّةُ تقوم على الفصل بين الدين والدولة، وتجعل من الدين قضية شخصية تعني الفرد في علاقته بخالقه، أما السياسة فهي مجال عقلي مدني وضعي مفتوح يهم كل المواطنين بغض الطرف عن انتماءاتهم الدينية وقناعاتهم الروحية.

العلمانية ساهمت في تطور المجتمعات، وفي تجنب المزيد من الحروب الدينية الداخلية بين المتواجدين في ذات الرقعة الترابية، وعَمَّقَتْ فكرة السلام الأهلي، ومنحت الأقليات الدينية كامل حقوقها في ممارسة عباداتها والدعاية لدينها وتكثير أعداد المنتسبين إليه.

وحتى الذين يحاربون العلمانية، من إسلاميينا وغيرهم، نجدهم أول المستفيدين منها، في البلدان الغربية.

والعلمانية تنهض كحل وحيد، أحياناً، للكثير من الإشكاليات التي يمكن أن تعيق التعايش بين المجتمعات الواحدة، مثل الحالة التي يتألف فيها مجتمع ما من عدد من السكان موزعين بالتساوي بين ديانتين مثلاً.

والعلمانية، كذلك، هي التي تضمن إعطاء المعنى الحقيقي لمفهوم الدولة الوطنية ولمؤسسة المواطنة التي تمثل عماد الديمقراطية الحديثة.

هناك مظاهر علمنة قائمة في جميع المجتمعات والبلدان، ولا يمكن، اليوم، لأي بلد أو مجتمع أن يوقف زحفها، ولم يعد من الممكن تماماً قيام دولة دينية خالصة، في أية بقعة من العالم، وما يمكن أن تصل إليه بعض الحركات الأصولية هو قيام وهم الدولة الدينية، أو ما يشبه قليلاً الدولة الدينية، أو قيام نظام شمولي واستبدادي باسم الدين.

العلمانية لا تقوم على معاداة الدين أو محاربة التدين أو منع الناس من أداء شعائرهم أو معاقبتهم على قناعاتهم الدينية، بل إنها أكبر ضامن للحرية الدينية لأنها تحمي حق كل مواطن في الانتماء إلى الدين الذي يريد وممارسة عبادته بكل حرية، حتى ولو كان المواطن الوحيد الذي يدين بتلك الديانة في البلد.

وبالرغم من كل ذلك، فإننا، كحزب، ننشد، في شروط المرحلة التاريخية القائمة، إقامة (الدولة المدنية)، وهي ليست مجرد نقيض للدولة العسكرية، ولكنها صيغة لدولة تتجنب التطبيقات العلمانية على الطريقة الفرنسية، وتحافظ، في نفس الوقت، على المقومات الأساسية للمواطنة وسمو القانون والمساواة أمامه، وهي صيغة لإزاحة إحدى العقبات الأساسية في طريق بناء توافق تاريخي على إقامة الديمقراطية في مجتمعاتنا المغاربية والعربية.

إن مفهوم (الدولة المدنية) يصون حضور الدين الإسلامي في الفضاء العام، من خلال جوانب محددة على وجه الحصر، ولكن في ظل التسليم بحرية المعتقد.

نحن، في الحزب الاشتراكي الموحد، نعتبر الدين الإسلامي ملكية جماعية للمغاربة، لكن مشكلتنا هي مع مجموعة من الممارسات من قبيل :

  • ممارسة الاستبداد، باسم الدين، وإعطاء شرعية دينية لقرارات لم تُتَّخَذْ ديمقراطياً من طرف منتخبي الشعب، وادعاء الحديث باسم الله وخرق القواعد المُتَعَارَفِ عليها لدولة القانون.
  • تمتيع الحاكمين بالقداسة على أساس ديني.
  • نشر التخلف والخرافة والشعوذة والعادات المخالفة للقواعد العلمية باسم الدين.
  • تكفير الخصوم السياسيين والفكريين، وتهييج نفوس الجمهور العام ضدهم، وتعريض سلامتهم وحياتهم للخطر.
  • المس، باسم، الخصوصية الدينية، بالقواعد الكبرى للديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما الحيز الخاص بالخصوصيات تنهض تلك القواعد، نفسها، بمهمة رسم مداه وحدوده.
  • القراءة الحرفية والظاهرية للنصوص الدينية وتجريم الاجتهاد.
  • المزايدة، باسم الدين، ورفع شعارات، يعلم رافعوها قبل غيرهم، استحالة تطبيقها، طمعاً في استدرار عطف الجماهير وكسب أصواتها.

ليست هناك ديانة يمكن أن تعفي نفسها من اختبار الإصلاح الديني، المناهضون له إنما يناهضون التطور في حقيقة الأمر، ويخدمون بذلك مصالحهم في الكثير من الأحيان.

من المعضلات التي أضحت اليوم منتشرة بقوة وبأشكال متنوعة ومتعددة، معضلة الإرهاب الذي أصبح حقيقة واقعة، وبغض النظر عن أسبابه ومسبباته ومآلاته وامتدادات شبكاته وصيغ توظيفه، فإننا، في الحزب الاشتراكي الموحد، كدعاة للسلم والتسامح والتعايش والأخوة الإنسانية، لا يمكن إلا أن نكون على طرفي نقيض مع كافة أشكال الإرهاب المعلنة والمستترة. وتزايد مخاطر الإرهاب يضع علينا، نحن أيضاً، مسؤولية العمل للقضاء عليه، باستئصال أسبابه وعوامله المتعددة، والاهتمام بحماية الفئات الشبابية المهددة بالسقوط في لُجَّتِهِ.

نحن نعلم أن السلطوية تستغل الحرب على الإرهاب لمصادرة المزيد من الحقوق والحريات، وحتى في أعرق الديمقراطيات يستغل اليمين المتطرف قضية الإرهاب لقضم مساحات من “الرقعة” الديمقراطية، ولهذا فإننا نرفض الإرهاب ونساهم في مجهود هزمه واندحاره، ولكننا، في ذات الوقت، نرفض استغلال موضوع الإرهاب لترسيخ آليات السلطوية والاستبداد في وطننا ومحيطنا، ونناضل من أجل فرض اختيارات وبرامج اقتصادية واجتماعية وثقافية كفيلة بحماية الشباب من الوقوع ضحية الدعاية الإرهابية، ومن أجل فضح التناقض الذي تقع فيه كل من الأصولية المخزنية والأصولية الإسلاموية، فهما معا تلتقيان في تسويق قراءة للدين قائمة على منهج مُسَوِّغ للتطرف والانغلاق والماضوية والاستعلاء، ولكنهما، في الوقت نفسه، ترفضان نتائجه !

الأصولية المخزنية تتشبث بذلك المنهج كسبيل إلى إدامة علاقات الوصاية والتسلط والتحكم.

والأصولية الإسلاموية تتشبث بذات المنهج لترسيخ نفوذها في المجتمع وكسب المواقع والقلوب والأنصار.

بل وتدخلان معاً في مزايدة متبادلة.

وموقفنا من الإرهاب لا يستثني إرهاب الدولة، مثل ذلك الذي تمارسه الإمبريالية أو الكيان الصهيوني، والذي يعتدي على حقوق الشعوب في السيادة الوطنية، دون سند مشروع، ويعتبر أن ضخامة آلته العسكرية تسمح له بقتل الأبرياء، وممارسة العقاب الجماعي ضد المدنيين، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واغتيال الأفراد وهدم المساكن والمنشآت المدنية…إلخ.

إن وجوب التصدي للإرهاب لا ينبغي أن ينسينا ضرورة التمييز بين الإرهاب المرفوض والمدان، والمقاومة المشروعة؛ وفي هذا السياق نجدد موقفنا الثابت القاضي بمساندتنا للشعب الفلسطيني في نضاله من أجل التحرر من الاستعمار وإقامة دولته المستقلة القابلة للحياة، وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين، والإفراج عن الأسرى، مع انخراطنا في مناهضة جميع أشكال التطبيع كوسيلة من وسائل الضغط من أجل تحقيق السلام العادل والشامل الذي لن يتحقق إلا في ظل الاحترام التام لقرارات الشرعية الدولية وعودة الحقوق إلى أصحابها.

إن المعركة في مواجهة الكيان الصهيوني هي جزء من مهامنا كيسار اتتصر دوما للقضايا العادلة، وقاد معظم المعارك في مواجهة الاستعمار والتوسع الامبريالي عبر مناطق العالم المختلفة؛ ذلك أن مواجهتنا للاستعمار الصهيوني هي مواجهة لآخر القلاع الاستعمارية في العالم، التي مثلت وما تزال كيانا وظيفيا لمراكز القرار الاستعماري المتعاقبة (بريطانيا في المنطلق والتأسيس، ثم فرنسا، قبل أن تصبح الإدارة الأمريكية هي الراعية والداعمة بعد تراجع النفوذ الاستعماري البريطاني والفرنسي)؛ إذ منذ الإعلان عن وعد بلفور الاستعماري، قبل مائة سنة، والشعب الفلسطيني يواجه، مسنودا بعمقه وامتداده الإقليمي والإنساني ممثلا في كل قوى اليسار والتقدم عبر العالم، معركة تحرر مستمرة حتى الآن، تصاعدت وتيرتها منذ الإعلان عن قيام كيان استيطاني عنصري على أرض فلسطين سنة 1948. وهو الكيان الذي شَكَّلَ أداة للامبريالية في ضرب كل نزعة نحو التحرر والاستقلال، عبر عمليات غزو عسكري متعاقبة لما تبقى من فلسطين ولأطراف من البلدان المجاورة لها.

وباعتبار أن الظاهرة الاستعمارية تشكل جزءًا من الماضي الأليم للإنسانية التي استطاعت معظم شعوب العالم التخلص منه، والتقدم في بناء منظومة لحقوق الإنسان، متعارف عليها اليوم عالميا، يبقى الاستعمار الصهيوني لفلسطين جزءًا من الظاهرة الاستعمارية التي تشكل أبرز انتهاك لحقوق الإنسان، ومظهرا من مظاهره الرجعية في عالم اليوم. وعلى هذا الأساس فإننا، كيساريين، طالما اعتبرنا القضية الفلسطينية قضية وطنية، وكنا وما نزال جزءًا من حركة التحرر الوطني والإفريقي والأممي التي لعبت أدوارا أساسية في التصدي لهذه الظاهرة والقضاء عليها في أكثر من منطقة في العالم، خاصة في بلدان القارات الثلاث التي تعرضت لهيمنة استعمارية استمرت لأكثر من قرنين من الزمن، قبل أن يتم تفكيكها بعد معارك قاسية وطويلة أدت من خلالها شعوب القارات الثلاث أثمنة باهظة.

وإذا كان معيار القوة لا يؤسس للحق، باعتبار أن موازين القوى تتغير وعملية التغيير تصنعها إرادة الشعوب الحرة. وهي النتيجة نفسها التي يؤكدها كتاب الحكمة الإنسانية المفتوح على تجارب الشعوب المختلفة في النضال والتحرر؛ فإن طول المدة التاريخية للنظام الاستعماري والعنصري في جنوب إفريقيا، لم يمنع الشعب هناك من الصمود حتى تفكيك هذا النظام وإسقاطه؛ مثلما لم ينفع فرنسا احتلال الجزائر لمدة 132 سنة قبل اضطرارها للخروج منها بفعل ثورتها التحريرية الكبرى.

وعلى هذا الأساس، يبقى، من مهامنا كيسار، دعم حق الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني بكافة الأساليب والوسائل المشروعة وفي مقدمتها حقه في المقاومة بجميع أشكالها حتى تحرير الأرض والإنسان، وفقاً لمرجعية حقوق الشعوب في التحرر والاستقلال والسيادة، مساهمة منا، كيسار، في معركة تقويض الظاهرة الاستعمارية وتفكيكها من أجل ضمان مستقبل للإنسانية تسود فيه قيم السلام والحوار والتضامن.

الوضع السياسي القائم :
فشل مشاريع الانتقال، مغاربياً وعربياً، ومحاولة العودة الرسمية، مغربياً، إلى ما قبل 2011.

هل يسير العالم نحو المجهول؟

يُلاحظ، اليوم، على الصعيد العالمي، قدر من الانزياح نحو اليمين، خصوصاً في المركز الرأسمالي (أمريكا – أوروبا..)، وتفوق بعض التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة، وسيادة خطاب الحمائية، في ظل انهيار الآلة الإنتاجية التقليدية، ومن أجل إيقاف زحف الاقتصادات الصاعدة (الصين تحديداً).

بعد انفجار الأزمة الاقتصادية، عاشت النخب المسيرة نوعاً من الذهول، ثم تناسلت المواقف الغريبة وغير المنتظرة (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وظهر بعض الأشخاص النجوميين المُعْتَمِدِين، في أكثر الأحوال، على طاقاتهم الذاتية، والذين يُقَدِّمُون أنفسهم كأنبياء منقذين في السياسة، وكحملة مشاريع قادرة على التغيير، وكبديل عن الأحزاب القائمة، ويحققون نتائج انتخابية جيدة.

من كان يتصور أنه بعد الحرب العالمية الثانية، ستسفر آلية الديمقراطية التمثيلية عن صعود قادة شعبويين إلى سدة الحكم في دول كبرى، ممتطين صهوة خطاب يميني متطرف ومجنون، ينشر الرعب ونخشى معه أن يُساق العالم نحو المجهول، قادة يمكن أن ننتظر منهم أي شيء.

اليمين المتطرف يستغل، دائماً، وجود حالة من الخوف أو أزمة، ليقدم صنفاً من الحلول السهلة والتبسيطية التي لا يمكن أن تصمد أمام اختبار العقل والتفكير المتبصر الرصين، والتي يشيطن بها طرفاً معيناً ويحمله المسؤولية بطريقة مجحفة ولا أثر فيها للتروي، وينشر معلومات كاذبة. وبعد أن تُتخذ القرارات الحمقاء يُشرع في البحث عن طرق تدبيرها، وبعد أن تتراجع الهالة التي أُحيطت بها في البداية، تظهر حقيقتها المفزعة، ويتبين عجز تلك القرارات عن إيجاد حلول أو مخارج.

بعد سقوط نظام بن علي في تونس، اجتاحت المنطقة المغاربية والعربية موجة من المظاهرات الشبابية المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

مَسَّتْ هذه المظاهرات، على وجه الخصوص، مجموعة من البلدان التي تشترك في عدد من السمات المتمثلة أساساً في وجود رؤساء ونخب حاكمة سجلوا طول إقامة بالسلطة، ووجود حزب حاكم مقرب وحائز على امتيازات تخل بتكافؤ اللعبة السياسية، والنفوذ المتزايد لعائلات وبطانة فاسدة، وأجهزة أمنية واستخباراتية متغولة تحافظ على استمرار النظام بالعنف المادي والرمزي غير المشروع، وعدم نزاهة العمليات الانتخابية أو غياب تنافسية أو تعددية حقيقية وخضوعها لتوجيه وسيطرة الفريق الحاكم، ووجود انتقال ديمغرافي نوعي جعل الشباب يعيش قطيعة مع النخب ومع الأنظمة القائمة، ورسوخ القناعة باستحالة تحقيق تغيير أو تناوب سلمي حقيقي من داخل البنية المؤسسية والدستورية القائمة.

وقف العالم يتأمل لوحة ثورية راقية ورائعة، وبدأ الحديث عن وصول موجة الانتقال الديمقراطي إلى المنطقة العربية، وعن انبلاج صبح الديمقراطية، وعن انتهاء عهد الاستبداد في نسخه “القومية” و”الاشتراكية” و”الليبرالية” وحلول زمن التغيير السياسي الذي طال انتظاره.

كانت الانتفاضات قد بدأت برفع شعارات ذات طابع اجتماعي، ثم استشرفت الأفق السياسي وتحولت إلى حركة جماهيرية قائمة، في أصلها وجوهرها، على أساس سلمي، وروح من التسامح والتعدد، وتَمَثُّلٍ عميق لفكرة الانتقال الديمقراطي، وإرادة الذهاب إلى النهاية، وتَقَيُّدٍ بالأخلاق السياسية العالية، وأَشَّرَتْ إلى وجود جيل جديد من القادة الأوفياء لمتطلبات الديمقراطية، وساد الاعتقاد أن هذا الجيل سيقود قاطرة العبور إلى مرحلة تصليب الديمقراطية.

لكن النتيجة كانت مخالفة لهذه الآمال وأُجْهِضَ الحلم، وغدى المشهد السياسي دراماتيكاً، ومتسما بوجود واحد أو أكثر من العناصر التالية :

  • حرب أهلية.
  • عودة النظام السابق في جلباب جديد.
  • القمع الرهيب ومصادرة الحريات على نطاق واسع من طرف حاكم جديد.
  • إقرار دستور غالب على مغلوب، مكرس لمنحى رئاسي تحكمي.
  • الطائفية والنزعة العرقية أو الجهوية أو الدينية المغالية.
  • رفض الاختلاف الديني.
  • تسليح الأطراف السياسية لنفسها في مواجهة غيرها، وانطلاقها من فكرة فرض ذاتها بالقوة.
  • تفتت الدولة وسقوطها ضحية التقسيم.
  • تدمير البنيات التحتية وانتشار المجاعة والأوبئة.
  • تدويل المشكلة السياسية الداخلية، وتدخل قوى أجنبية لفرض أجندتها الخاصة، والسعي للتحكم في موارد الطاقة، وإضعاف القدرات الذاتية للشعب، وتوفير مزيد من الحماية لإسرائيل.
  • تمكن الإرهاب من التوفر على بيئة خصبة للتوسع والانتشار.
  • تحريف الشعارات الأصلية الأولى للانتفاضة الشعبية وتحويلها، مثلاً، من شعار بناء الدولة الديمقراطية إلى شعار بناء دولة الخلافة و “تطبيق شرع الله”.
  • مشاهد مرعبة للذبح والتقتيل والتنكر لكل ما راكمته الإنسانية على مستوى بناء دولة القانون.

هذا يدفعنا إلى طرح السؤال الطبيعي التالي : لماذا فشل الانتقال الديمقراطي الذي بَشَّرَ به “الربيع العربي”؟ هل دور الداخل هو الذي قاد إلى هذا المآل المؤسف أم دور الخارج؟ هل الخراب والدمار الذي أصاب المنطقة المغاربية والعربية هو مجرد حروب استعمارية جديدة؟

هناك، في نظرنا، تحليل مبسط وجاهز، يذهب، دون أي مجهود لتدقيق المتابعة والرصد، إلى أن ما سُمِّيَ بالربيع العربي هو عبارة عن مؤامرة امبريالية غايتها الوصول إلى ما وصلت إليه الأمور. وبناء على هذا التحليل، فنحن، في نهاية المطاف، مجرد دمى في يد الأجنبي يفعل بنا ما يشاء، ويعمل، ليل نهار وطول الوقت، لتشتيت شعوبنا ومنعنا من التقدم، ونهب ثرواتنا، وحرماننا من حق التمتع بالحرية والديمقراطية، والحكم علينا بالبقاء متأخرين.

إننا نخشى أن يقود مثل هذا التحليل إلى تزكية الاستبداد، الذي كان قائماً قبل الربيع، واستحسانه واعتبار أن بقاءه واستمراره كان سيوفر على شعوبنا كل ما تعانيه الآن !

إن العامل الأساسي لما وصلنا إليه هو الاستبداد، إذ لو لم يكن هناك استبداد لما كان هناك تفكير في الثورة عليه. ولا يجب علينا أن ننسى أن الثورة على الاستبداد، من حيث المبدأ، مشروعة وتمثل حقاً من حقوق الشعوب. إن فشل الثورة لا يمنح المستبدين أية شرعية للبقاء جاثمين على صدور الشعوب. لقد انتهى الزمن الذي كان يمكن لهم فيه أن يواجهوا شعوبهم بقولة ابن تيمية: “ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان”.

وفي جميع الأحوال، فإن الديمقراطية تمثل، اليوم، نزعة ثقيلة لا يمكن تجنبها. لقد تأخرت الثورات بمنطقتنا، كثيراً. يمكن للمستبدين أن ينتشوا بتعثر المسار الثوري، ظرفياً، ولكنهم يعلمون جيداً أن النصر، في النهاية، سيكون حليف الديمقراطية.

وتقف وراء فشل الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، جملة من الأسباب المركبة، ثقافية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية. قد يكون الفشل عائداً إلى غياب طبقات متوسطة “ناضجة” أو إلى غياب مستوى معين من التأهيل الاقتصادي أو الفكري، أو إلى غياب الاستعداد للتوافق والاستعداد للتغيير، أو إلى عدم وجود زعيم جامع معتدل (أو بالأحرى زعامة مؤهلة لقيادة الانتقال الديمقراطي)، أو غياب نخبة معتدلة هنا وهناك (نخبة من العهد القديم مستعدة للتغيير، ونخبة من العهد الجديد مستعدة للتوافق)، أو بكل بساطة، غياب نخبة قادرة على النهوض بمسؤولياتها في مرحلة حاسمة من تاريخ شعوبها.

النخب التقليدية، الموجودة في العديد من البلدان الديمقراطية، مسكونة بالهاجس الانقلابي وليست متشبعة، بالقدر الكافي، بالثقافة “الانتقالية”، بينما النخب الشبابية، التي قادت الثورات، باقتدار كبير، غير قادرة على تحصيل تزكية انتخابية لمواصلة الإشراف على بقية فصول المسلسل وإنجاح الانتقال الديمقراطي.

لقد ظَلّ الذين يفوزون في الانتخابات، بعد سقوط رؤوس الأنظمة، هم الشعبويون الإسلاميون والأعيان ومقدمو المنافع الشخصية المباشرة للناخبين، وليس أولئك الذين يملكون تصوراً وبرنامجاً حقيقياً للانتقال الديمقراطي.

وفي بعض الأحيان وقع التساؤل عما إذا كان العامل الحاسم في فشل الانتقال الديمقراطي هو غياب الدولة، أصلاً، وكل ما كان موجوداً، قبل سقوط رأس النظام، هو النظام ورئيس النظام.

إذا كنا نعتبر أن سبب فشل رهان الانتقال راجع، بالأساس، إلى عوامل داخلية، فإننا، مع ذلك، يجب أن نعترف، بالنسبة إلى الحالة العراقية، على وجه خاص، أن التدخل الأمريكي، في 2003، قد مَهَّدَ الطريق للتدخل الإيراني غير المباشر ونجم عن التدخلين بحر من الدماء وسلسة من الكوارث.

إن نجاح الانتقال الديمقراطي يتطلب أن تكون الأطراف السياسية قادرة على صياغة دستور موحد، وأن تكون هناك نخبة مناضلة من أجل التغيير والانتقال الديمقراطي وقادرة على نيل ثقة الشعب في التمرين الانتخابي. وربما يتطلب الأمر أن تكون هذه النخبة، في مرحلة النضال السلبي، أي في ظل النظام السابق، قد تمكنت من اكتساب الخبرة والمراس، على المستوى الانتخابي، ومن بذل الخطوات الأولى الضرورية على طريق إنجاح تمرين التوافق.

لقد تجلى، من خلال مجريات “الربيع العربي”، وجود نوع من الإعاقة في بناء المشهد السياسي بالبلدان العربية، وعدم جاهزية طرفي الصراع السياسي للدفع بمسار الانتقال الديمقراطي.

الطرف الإسلامي يتوفر على نفوذ وقوة وقادر على تحقيق انتصارات انتخابية مشهودة، ولكن أغلب مكوناته تريد خدمة ذاتها وليس خدمة الديمقراطية، وإذا تبنت بعضاً من مقومات الديمقراطية، فيكون ذلك إما لأنها مجبرة على الأمر، أو لأن ما تأخذه منها يخدم مصالحها بالأساس.

الطرف غير الإسلامي مشتت بين :

  • من يريد الثورة ولا يريد الديمقراطية، ويسعى في كل مرحلة إلى الثورة حتى تنتصر ثورته الخالصة وتضعه في مواقع الحكم عن طريق صناديق الاقتراع أو حتى بدونها، وسيظل يشكك في حقيقية الثورة كلما فشل انتخابيا ويتهم الفائزين بتدبير ثورة مضادة.
  • من يريد الديمقراطية ولكنه ضعيف وعاجز عن فرضها.
  • من يتحالف مع الاستبداد، لأن الأولوية في نظره هي محاربة الإسلاميين ومنعهم من جني ثمار عملهم وكدهم.

المغرب تأثر أيضاً بموجة “الربيع العربي”، وخرج عشرات الآلاف من الشباب والمواطنين الآخرين مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، دون أن يتمكنوا من فرض انطلاق مسلسل فعلي للانتقال النهائي نحو الديمقراطية، وظل النظام السياسي كما هو، أي عبارة عن ملكية شبه مطلقة، مع “هامش ديمقراطي” محدود، ونظام سلطوي ينجح في تجديد بعض شعاراته ونخبه وبعض مظاهره، ولكنه يظل وفياً لقواعد المخزن كما تَمَّ ترسيخها منذ السنوات الأولى للاستقلال.

قبل مجيء الملك محمد السادس كانت الحركة الوطنية الديمقراطية قد أضاعت عدداً من الفرص التي كان بإمكانها أن تفضي إلى مسلسل للدمقرطة، وقد عَدَّدَها رفيقنا المناضل محمد بنسعيد آيت إيدر، في مناسبات سابقة.

وبعد وفاة الملك الحسن الثاني في 1999 وانتقال العرش إلى ابنه، كانت الظروف مواتية لطرح مشروع تعاقد جديد مع الملكية يقطع مع الممارسات السابقة ويفتح أفقاً لبناء مغرب ديمقراطي، خاصة أن الملك الجديد افتتح عهده بسلسلة من التدابير والإجراءات التي جعلت المغرب يدخل مرحلة انفتاح سياسي نسبي في الفترة ما بين 1999 و2002، تخللتها، مع ذلك بعض مظاهر التشدد.

خلال المرحلة المشار إليها تَمَّ تخفيف بعض مواطن الاحتقان ومحاولة إصلاح بعض أخطاء حكم الأب، وإطلاق دينامية للمصالحات.

لم يَعِدِ “العهد الجديد” بإحداث قطيعة جذرية مع الماضي، ولكنه وعد بتحسين الأوضاع، وتَجَنَّبَ الإعلان عن مراجعة دستورية ولكنه التزام بإصلاحات “مؤسسية”، وعمل على إبراز الوجه الاجتماعي للملكية في ظل عاهل جديد، وأبدى في خطبه وتحركاته نوعاً من الانتباه إلى ظاهرة الهشاشة الاجتماعية، وأعلن إرادته في محاربة الفقر والإقصاء وإسعاف الفئات المحرومة في المجتمع، ورَفَعَ شعارات جديدة مثل (المفهوم الجديد للسلطة) و(المشروع الديمقراطي الحداثي)، غير أن الآمال، التي انفتحت للدخول إلى عهد جديد، ما فتئت تتراجع لحساب الدولة المخزنية والاستبداد حتى أُغلق القوس الذي انفتح، أو كاد، مع الملك الجديد ولم يتحقق الانتقال المؤمل نحو الديمقراطية الحقة.

بتعيين الملك لشخصية تكنوقراطية في منصب الوزير الأول، يكون قد وضع حداً لتجربة التناوب الأول التي قادها عبد الرحمان اليوسفي، وخرج عن “المنهجية الديمقراطية” التي كانت تقضي بإسناد منصب الوزير الأول لشخصية من الحزب الحاصل على الرتبة الأولى في انتخابات 2002.

كان المفروض أن يُعهد إلى شخصية حزبية بتولي حقيبة الوزارة الأولى حتى يكون للانتخابات معنى، رغم صواب كل التحفظات المسجلة على نزاهة الانتخابات ورغم محدودية الصلاحيات المخولة للحكومة وللوزير الأول، ولكن يبدو أن الملك اعتبر أن حل مشاكل البلاد ومعالجة الملفات باقتدار ونجاعة ودقة يتطلب استدعاء كفاءة التكنوقراط الذين لا يتقدمون للانتخابات ولا يعرضون، نظرياً، على الشعب برنامجاً للتصويت عليه، لشغل هذا المنصب الحساس والمهم، ولو من الناحية الرمزية، واستبعاد الأحزاب. إن هذه الإشارة التي تتضمن تثميناً للتكنوقراطية هي في الواقع تعبير عن إرادة السير في طريق تقديم التنمية كبديل عن الديمقراطية، بدعوى أن ما يهم الناس هو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ولا يهمهم أن يكون للوزير الأول لون سياسي أم لا، فإذا كان قادراً على حل المشاكل وحسن تدبير شؤون البلاد فهذا هو المهم.

استغل النظام، آنذاك، الصراع الضاري الذي نشب بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، حول مدى أحقية كل منهما لشغل منصب الوزير الأول، من أجل إعطاء دفعة للفكرة القائلة بأن المعالجة الجدية لمشاكل التنمية تقتضي المزيد من مركزة القرار وحصره في دائرة ضيقة من المقربين والتخلص، في نظره، من “ثرثرة” السياسيين الذين لا ينجحون سوى في خلق المشاكل عوض حلها.

اضطر اليوسفي إلى الاعتراف بفشل التناوب الأول، وتعذر الانتقال من (التناوب التوافقي) إلى التناوب الديمقراطي كما بَشَّرَ بذلك دعاة المشاركة الحكومية في 1998، وعَدَّدَ العوائق الجوهرية التي واجهت التجربة، وهي عدم توفر الحكومة على الوسائل الكافية لتطبيق برنامجها، وإخضاعها الممنهج لتقاليد عتيقة تعيق حركتها وتجمد مبادرتها، ووجود نوع من الازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة مما يعرقل عملية تحديد المسؤوليات وترتيب المحاسبة.

وبعد وقوع تفجيرات 16 ماي 2003، سيختار (العهد الجديد) الدخول في مرحلة جديدة حَلَّ فيها التشدد محل إشارات الانفتاح، وأصبحت الحرب على الإرهاب ذريعة إضافية لمزيد من مركزة القرار.

بعد تفجيرات 2003، سار النظام السياسي في اتجاه وقف مسار الانفتاح وتدشين مسلسل لتقييد الحريات، وحاول أن يوحي بأن هناك حاجة إلى إعطاء الملك المزيد من الصلاحيات لترميم الشرخ الاجتماعي ومحاربة الأسباب التي يُفترض أنها أدت إلى الإرهاب.

كما عمل النظام على فرض ترديد الرواية الرسمية للأحداث كرواية مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وعلى بناء جبهة خلف الملك لحماية المغرب، والحفاظ على “الاستثناء المغربي” الذي يعني أن الإرهاب نبتة غريبة عن تربته، تَمَّ تصديرها إلينا لمحاربة المس بإجماع المغاربة حول ثوابتهم.

وكان التناقض في خطاب النظام واضحاً، فبموازاة الحديث عن “حصانة” المغرب، ومحاولة تحريم أية إشارة إلى الأسباب والعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتفريخ الانتحاريين، كان يتم تدشين مشاريع اجتماعية ووضع برامج لمحاربة الفقر والتهميش والإقصاء في الأحياء التي ينحدر منها الانتحاريون.

حصلت الأجهزة الأمنية على المزيد من الضمانات والصلاحيات والعدة والعتاد، وتحول الأمر، تدريجياً، إلى ما يشبه الحصانة، وتَمَّ تمرير قانون محاربة الإرهاب رغم عيوبه الجلية، واعتُقل الآلاف، وحوكم المئات في محاكمات لم تستوف، قط، شروط المحاكمة العادلة، ورغم اعتراف الملك بحصول تجاوزات فلم تُتخذ أية إجراءات عملية جوهرية لضمان عدم تكرار تلك التجاوزات.

اعتمد القضاء، كثيراً، على تقارير الأجهزة، وتعززت القبضة الأمنية، ولم تستطع المنظمات الحقوقية مواكبة ما يجري في محاكمات تمت بإيقاع مفرط في السرعة للحيلولة دون استفادة المتابعين من بعض الضمانات التي تضمنها قانون المسطرة الجنائية الجديد.

وظلت الحرب المغربية على الإرهاب تجري بنفس المنطق والآليات، واستمر الأمر، كذلك، بعد وصول موجة “الربيع العربي”، ولنا أن نتصور الآثار التي تخلفها مثل هذه الحرب على الحرية في بلد لم يحقق انتقاله الديمقراطي ولا يعرف، عملياً، شيئاً اسمه الحكامة الأمنية !

طبعاً لا يمكن إنكار النتائج التي تَمَّ التوصل إليها في محاصرة الظاهرة الإرهابية، أمنياً، ولكن يظهر أن الثمن الذي يُطلب من المغاربة أن يؤدوه، مقابل تلك النتائج، باهض على مستوى الحقوق الديمقراطية.

ذلك أن الحرب على الإرهاب، في بلد كبلدنا، تتحول بسهولة إلى حرب على الديمقراطية، أيضاً، ووسيلة لمعاقبة عدد من المعارضين الذين لا علاقة لهم بخلفية الإرهابيين ومخططاتهم، وسبباً في الإخلال بالتوازن الذي يُفترض قيامه بين الأذرع الأمنية للنظام وأذرعه الأخرى.

والجذير بالذكر أن هذه الحرب تجري خارج منطق وعمل الحكومة “الإسمية”.

وحتى الشعار البراق الذي رفعه النظام، بعد تفجيرات 16 ماي، وهو شعار (المشروع الديمقراطي الحداثي)، لكسب ود اليساريين وجرهم إلى صفه وبناء حلف معهم ضد الإسلاميين، فسَيَتِمُّ تناسيه ووضعه في الرف بعد مدة ليست بالطويلة.

حاول النظام أن يقنع الناس بأنه قادر على إيجاد جواب لكل سؤال من أسئلة التنمية، بغض الطرف عن برامج الأحزاب ونتائج الانتخابات، وأنه في حاجة فقط إلى أطر تكنوقراطية قادرة على حل المشاكل لأن الأحزاب عاجزة.

هذا الاختيار هو الذي يلخصه شعار (الملكية التنفيذية)، وهو يعني أن الملك يعبر عن إرادة شعبه في تحسين الأوضاع، وأنه أعد لذلك مجموعة من الأوراش الكبرى والمخططات القطاعية وبرامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وأن المغرب قادر، بفضل ذلك، على الخروج من النفق والالتحاق بصف الدول البازغة.

إذن، هناك اليوم، كما كان الأمر في الماضي، ما يمكن تسميته ببرنامج الدولة القار.

و”برنامج الدولة” يحتاج إلى “حزب الدولة”، أي إلى قوة سياسية “جديدة”، تساعد في تسويق البرنامج، وتتولى كسب المعركة ضد الإسلاميين. وهذا الحزب هو أيضاً حزب إداري، ولكنه الحزب الإداري الأول؛ إذ لم يعد المشكل، بالنسبة إلى النظام، هو الحصول على أغلبية برلمانية مريحة، فهذا متوفر، بل أصبح المشكل هو وجود حزب “إداري”قادر على احتلال الصف الأول في الانتخابات.

الملكية التنفيذية هي، إذن، ملكية تسود وتحكم، وحزب الدولة هو أداة سياسية جديدة لمحاربة الإسلاميين ودعم “الأوراش الملكية” وتجديد الحياة السياسية وتعويض النخب الحزبية التقليدية بنخب تتوسل إلى خطاب أكثر إقناعاً لناخبين تأكد ميلهم نحو الخطاب الإسلامي.

الملكية التنفيذية تعني، عملياً، استبعاد أي إصلاح دستوري، على أساس أن الإصلاحات المطلوبة لا تتوقف على تغيير دستوري، بل على تغيير “مؤسسي” أدنى من الدستور.

يتضح من خلال هذا التوجه خضوع النظام المغربي إلى إغراء النموذج البنعلي في تونس حيث بدأ التسويق لفكرة نجاح النموذج التونسي في تحقيق قدر هام من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وخلق طبقة متوسطة.

وتظهر علاقة الحزب الذي تَمَّ إنشاؤه بـ”الدولة” من خلال عدة عناصر؛ فالشخصية التي أخذت مبادرة التأسيس شغلت منصب وزير منتدب في الداخلية، قبل أن تستقيل بطريقة مفاجئة وتتقدم لانتخابات 2007، معلنة أن ذلك لا يندرج في أية أجندة سياسية، وبعد حصول نتيجة دائرة الرحامنة ظهر كما لو أن الطريق سالكة لاكتساح الانتخابات من طرف حزب تؤسسه هذه الشخصية.

وما كان لأفواج الأعيان، التي هاجرت بكثافة ملفتة من الأحزاب الإدارية التقليدية إلى الحزب الإداري الجديد، أن تفعل لو لم تتأكد لها القناعة بأن هذا الحزب هو الأقرب للسلطة من كل الأحزاب الموجودة في الساحة، وأنه لا ريب سيحظى بامتيازات مؤكدة. وهذا ما حصل فعلاً في عمليات تشكيل مكاتب الجماعات المنبثقة عن انتخابات 2009، وفي “الترضية القضائية” التي حظي بها الحزب وجعلت جيش المُنْتَخَبِين، الذي غادر الأحزاب التي انْتُدِبَ باسمها في الانتخابات، ضدًا على مقتضيات القانون، والتحاقه بالحزب، لا يلحقه أي جزاء.

وسيظل هذا “الحزب الإداري الجديد” حزب المفارقات بامتياز، وحزب إنتاج الغرائب والعجائب، ولا أدل على ذلك من إعلانه بأن وثائقه الرسمية هي النصوص الصادرة عن مؤسسات وهيئات عمومية (هيأة الإنصاف والمصالحة مثلاً)، واعتماد بنائه التنظيمي في القيادة على أسماء يسارية سابقة تزعم المنافحة عن الحداثة، وفي “القاعدة” على أعيان أمضوا حياتهم السياسية في مقاومة الحداثة، وتردده خلال المراحل الأولى لنشأته، في تصنيف نفسه فهو يقول إنه ليس حزبًا يسارياً وليس حزباً ليبرالياً، قبل أن يقع على توليفة لا تعني، في ضوء الخارطة الحزبية المغربية، أي شيء، وليس هناك ما يسندها في الواقع، فهو حزب يصنع الشيء ونقيضه وتتضارب مواقفه في النظر إلى الواقعة الواحدة.

عندما يقبل النظام السياسي المغربي إجراء الانتخابات ولا يقبل نوعاً من النتائج التي يمكن أن تُفْضِيَ إليها، وعندما يقبل الانتخابات ويرفض أن تفضي إلى التأثير، جوهرياً، في طبيعة القرارات المتخذة والبرامج المسطرة، فإن النتيجة العملية لذلك هي اصطناع أحزاب موالية، وتزوير الانتخابات لصالحها لضمان وجود أغلبية مريحة تساير كل ما يصدر من مركز القرار الأصلي وتدعم منطق الحكم السائد وتضمن عدم حصول أي تغيير أو تداول حقيقيين.

وينتج عن ذلك تشوه في الخريطة السياسية، حيث تتمكن أحزاب ليس لها وزن حقيقي، في الواقع، من الحصول على عدد كبير من المقاعد.

وإذا كان المفروض أن يؤدي الانتقال الديمقراطي المأمول في المغرب إلى التخلص من ظاهرة الأحزاب الإدارية، فإن تطور الواقع السياسي قد أدى، بالعكس، إلى تكريس ظاهرة الأحزاب الإدارية، وتحولت عدد من الأحزاب “التاريخية” إلى أحزاب إدارية جديدة، فأصبح لها نوع من التبعية للنظام، وغَدَتْ تستحسن كل ما يصدر عن مركز القرار، ووضعت نفسها تحت الخدمة مقابل مواقع ومغانم، وتحولت تنظيماتها، في الغالب، إلى ما يشبه الهياكل الصورية المفتقدة للحيوية النضالية.

الأحزاب الإدارية لا تتوفر على أعضاء يمكن أن يقدموا تضحيات حقيقية من أجل أفكارهم ومواقفهم، فهم لا يعتبرون الأفكار والبرامج أساس الانتماء، بل يعطون الأسبقية للاستراتيجيات الفردية، ولا يدافعون عن استقلالية القرار، ويتساهلون في كل ما يتعلق بطبيعة الوسائل المستعملة، ويدعمون “برنامج الدولة القار” حتى ولو تَغَنَّوْا بشعار “الليبرالية”.

لقد نجح النظام في استقطاب وإدماج أغلب الأحزاب “الكبرى”، بعد صراع مرير، وفرض نوعا من التنميط الحزبي والتماهي المتبادل بين الأحزاب، وجعلها أشبه بكتلة متجانسة، تَتَّحِدُ في المقومات والأسس التنظيمية والثقافية والانتخابية والسلوكية، وتُبْدِي استعداداً مسبقاً وغير مشروط للتحالف مع بعضها البعض، في كل الظروف والسياقات، ما لم تتلقى إشارة بفعل العكس !

إن صفحة الأحزاب الإدارية لا يمكن أن تُطوى، بمجرد قبول الأحزاب “التاريخية” مبدأ التحالف معها، بل لا بد من مصالحة وطنية، في ظل انتقال حقيقي،  يَتِمُّ، من خلالها، الاعتراف بانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت فيها نخب الأحزاب الإدارية، وجبر الأضرار، وحَلِّ الهياكل الرسمية، والتزام مؤسسات الدولة بالحياد الحزبي..إلخ.

الأحزاب الإدارية هي، جميعاً، أحزاب الدولة، لكن الاعتبارات الانتخابية فرضت على النظام العمل بتعددها، مع تمتيع حزب، منها، بوضع أكثر امتيازية فيصبح بذلك “الحزب الإداري الأول”، والهدف هو تمكينه من الحصول على حقيبة رئاسة الحكومة.

لكن الحزب الإداري الأول يمكن أن يتغير حسب الظروف !

و”الملكية التنفيذية”، من الناحية الاقتصادية، تعني استمرار ذات الاختيارات التي انتُهجت في الماضي، ولاسيما الرهان على خلق ودعم “بورجوازية محلية” وتوجيهها نحو القطاعات التصديرية وتسخير موارد وإمكانات البلاد لربح هذا الرهان.

بغض النظر عن شرعية هذه الاختيارات من عدمها. فإن حصيلتها كانت كارثية. فنسب الفقر والهشاشة والبطالة والأمية تظل مرتفعة بكل المعايير والمقاييس وبإجماع كل المؤسسات الوطنية والدولية، ويواكبها تراجع مستمر ومهول في مستوى وجودة الخدمات الاجتماعية.

إن هذا الفشل هو حقيقة لازمت، تاريخيًا، الاستراتيجيات الاقتصادية للنظام السياسي المغربي، وفي غياب آليات ديمقراطية تربط المسؤولية بالمحاسبة، فقد أعُدمت كل إمكانية لمراجعة هذه الاستراتيجيات.

بعد هزة 2011، اضطر النظام السياسي المغربي إلى إدخال بعض التغييرات التاكتيكية على الخطط والسيناريوهات التي أَعَدَّهَا للحاضر والمستقبل.

كان الدافع الأساسي إلى تلك التغييرات هو موجة “الربيع العربي” في البلدان “الشقيقة”، والتي كانت حركة 20 فبراير في المغرب امتدادًا طبيعياً لها من بعض الوجوه وليس من كل الوجوه.

طُرح، في بداية ظهور الحركة، سؤال عما إذا كانت لها علاقة بالسياق الإقليمي و”الربيع العربي” أي عما إذا كانت مشابهة لانتفاضات وثورات المنطقة أما مختلفة عنها؟

هناك، في نظرنا، عناصر التقاء وعناصر اختلاف.

الوضع السياسي في المغرب يشترك مع الوضع السياسي في البلدان التي اندلعت فيها انتفاضات “الربيع” في جملة من العناصر. هناك في المغرب نظام سلطوي لا يعتمد الديمقراطية، فهو ملكية شبه مطلقة، ويرتكز على آليات تحمي الفساد والريع والاستحواذ على الثروة ونهب المال العام. ومن الناحية الاجتماعية هناك تفاوتات صارخة تنذر بإمكان حصول انفجار اجتماعي عام في أية لحظة. وهناك أحزمة للفقر والبؤس تطوق العديد من الحواضر وتتولي تخريج جيوش من الشباب الفاقد للأمل والمستعد للانسياق وراء تيارات التطرف والانغلاق والجنوح والعنف. وهناك عزوف واسع عن المشاركة في الانتخابات وتقدير عام بأن الانتخابات لم تعد تصلح لأي شيء وأن المؤسسات فقدت مصداقيتها تمامًا. وهناك استشراء للفساد في مختلف دواليب الدولة. وهناك حزب مقرب يحظى بامتيازات سياسية غير مستحقة وشبكات مقربة تحظى بامتيازات اقتصادية غير مشروعة. وهناك شعور كاسح بـ”الحـﯖرة” والظلم وعلاقة توتر مع أجهزة الدولة التي يُنظر إليها على أنها لا تعامل عموم المغاربة كمواطنين بل كخدم لدى من يمتلكون الحظوة والنفوذ.

والوضع السياسي، في المغرب، يختلف عن الوضع بالبلدان التي اندلعت فيها ثورات الربيع، أو عن جلها، من خلال عناصر عدة؛ فالنواة الصلبة للشباب الذين قرروا النزول إلى الشارع للمطالبة بالتغيير، لم تكن تنازع في شرعية الملكية كشكل للنظام السياسي، بل تندد بالنتائج الكارثية للحكم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وبسيادة الفساد والاستبداد وتخبط السياسات والاختيارات والسلوكات المُنْتَهَجَةِ باسم الملكية. والنظام السياسي كان ينجح، بين الفينة والأخرى، في إطلاق مبادرات للتنفيس وتخفيف الاحتقانات، وكان ذلك يجري بشكل دوري ومنهجي حتى يتجنب حصول الانفجار، كما كان يلجأ إلى تدشين مسلسلات إصلاحية محدودة، يحاول الإيحاء، من خلالها، برغبته في إحداث التغييرات الجوهرية المطلوبة والاستجابة للمطالب المرفوعة، لكنه يتحكم في تلك المسلسلات ويجعلها في النهاية تخدم مصالحه، وتُبْقِي على الجوهر والأساس، ويُرفق، كل ذلك بهالة استعراضية تتمكن أحياناً من تهدئة النفوس وبعث الأمل في تحسين الأوضاع.

لم يتوقف النظام المغربي عن الرفع الدوري لشعار المراجعة والتصحيح وتجاوز الأخطاء وإعطاء الوعود وضرب مواعيد لنقلات نوعية حاسمة (الترويج عدة مرات لخبر اكتشاف البترول). والمشهد السياسي العام لم يكن يعرف تقاطباً حاداً وواضحاً بين صف “الفساد والاستبداد” وصف “الإصلاح والتغيير”. لقد عمل النظام، دائماً، على تنميط الكيانات الحزبية، وتغيير مواقعها، باستمرار، من المعارضة إلى الحكومة، ومن الحكومة إلى المعارضة، حتى يوهم بوجود تعددية حقيقية وتناوب ديمقراطي على السلطة، من جهة، ومن جهة أخرى، حتى لا يراكم حزب من الأحزاب الوازنة قدراً من المصداقية يؤهله لقيادة مسار حقيقي للتغيير، وحتى يضمن عدم قيام تحالف حزبي إصلاحي قوي يهدد مصالح المركب الاستغلالي الجاثم على صدور المغاربة.

وما إن صدر إعلان التظاهر في 20 فبراير2011، حتى هرع النظام إلى محاولة إفشال خطة النزول إلى الشارع باستعمال أساليب متعددة ومنها المحاصرة والتشويه، وعمد، بعد ذلك، إلى مهادنة ومغازلة الحركة بعد أن تحولت إلى أمر واقع، وانتقل، في مرحلة ثالثة، إلى استخدام أسلوب القمع المباشر ثم القمع بالوكالة (البلطجة)، وصولاً إلى مرحلة الانتقام اللاحق وطبخ الملفات القضائية لعدد من رموز الحركة.

أما بالنسبة إلى مواقف الأحزاب والتيارات السياسية، فقد اتخذ الحزب الاشتراكي الموحد موقف الدعم المطلق للحركة على قاعدة وثائقها المُؤَسِّسَة، واختار دعم موقفها بعدم المشاركة في الانتخابات آملا أن تتمكن من حيازة القوة اللازمة لفرض التغيير الحقيقي، بينما اختار صف آخر من الإسلاميين واليساريين الداعمين ربط دعمهم بضرورة “عدم تسقيف” أفق الحركة ومنح الشعب المغربي، بعد التحرر من الاستبداد، حق تقريره مصيره واختيار شكل النظام الذي يريد، والتدخل المادي المباشر لحذف شعار الملكية البرلمانية من الوثائق التي ستصدر عن الحركة ابتداء من 17 فبراير 2011.

وشعار “عدم التسقيف”، إنما وُجد، في الأصل، لإخفاء حقيقة الخلاف بين مكونات حاملي الشعار ذاته، فلو تَمَّ تكوين مجلس تأسيسي لما حصل اتفاق حول نمط النظام السياسي الذي سينص عليه دستور ما بعد التغيير، ولَجَنَحَ الطرف الغالب إلى فرض تصوره للأشياء باسم السيادة الشعبية. إن حكاية عدم التسقيف، في نظرنا، هي مجرد مناورة لإخفاء النية في استغفال الأطراف الأخرى وفرض نموذج نظام معين (دولة الخلافة أو دولة العمال والفلاحين)، في الوقت “المناسب” على بقية الأطراف، والدليل على ذلك، هو أن أنصار عدم التسقيف لا يقدمون مقترحات دستورية مدققة، تسمح، مسبقاً، بأخذ فكرة عن حقيقة ما يريدون الوصول إليه.

لكن يُلاحظ أن الأغلبية الساحقة من التنظيمات المدنية والأحزاب السياسية، إما اختارت التزام الصمت وتتبع ما يجري في انتظار ميل الكفة إلى هذه الجهة أو تلك، أو أبانت عن قدر من التفهم لمطالب حركة 20 فبراير وانضم عدد منها إلى الائتلاف المغربي من أجل الملكية البرلمانية الآن، لكنها تراجعت عن موقفها بعد الاستجابة، أحياناً، لمطالب جزئية واعتبرت، في وقت من الأوقات، وخاصة بعد الإعلان عن دستور 2011، أن مهمة الحركة انتهت، وعلينا انتظار تفعيل مقتضيات الدستور التي وجدتها جامعة مانعة. وجذير بالذكر، هنا، أن النظام نجح في عزل الديناميات الاحتجاجية عن بعضها البعض، وحاول مخاطبة كل دينامية، على حدة، وفصل مطلبها عن المطلب العام، وأَمَّنَ، بذلك، عدم صب هذه الديناميات في المجرى العام للحركة. وقد لعبت العلاقات، التي كان النظام قد نسجها مع فصيل من تنظيمات المجتمع المدني، بمناسبة تنفيذ برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، دوراً حاسما في إنجاح خطة فك ارتباط الجمعيات والحركات القطاعية بحركة 20 فبراير.

واجتازت الحركة، في مسارها السياسي، أربع مراحل، الأولى هي مرحلة العالم الافتراضي، ويظهر أن خلفيتها السياسية هي الضغط لتحقيق انتقال ديمقراطي. والثانية هي مرحلة 17 فبراير، حيث تَمَّ إضفاء نوع من العمومية على “البيان الصحفي”، لضمان مساهمة “الكل” من خلال شعار (دستور شعبي ديمقراطي). والثالثة هي مرحلة التظاهر في الشارع، ولُوحظ فيها أن خطاب وشعارات المتظاهرين غير المنتمين، سياسياً، ثَمَّنَتِ الأفق السياسي الذي رسمته الوثائق التأسيسية والمتمثل في الملكية البرلمانية، كما أن عموم المتتبعين اعتبر أن هذا الأفق يشخص “روح” الحركة، وربما كان هذا أحد الأسباب المفسرة لانسحاب الطرف الذي ظهر له أنه غير مستفيد من الفكرة التي كوَّنَها الرأي العام عن أهداف الحركة والتسويق الإعلامي الواسع لشعار الملكية البرلمانية باعتباره الشعار المركزي للحركة. والرابعة هي مرحلة تشكيل (مجلس الدعم) والتنسيقيات المحلية، وهيمن عليها إكراه التفاوض السياسي بين المكونات، وتشكيل (الأنوية الصلبة)، للحفاظ على الطابع “التعددي” للحركة.

واجتازت الحركة، في مسارها النضالي الميداني، خمس مراحل. الأولى مرحلة هجومية شهدت مسيرات شهرية وتصاعد في القوة، بشعارات سياسية خالصة. الثانية هي مرحلة المسيرات الأسبوعية والنزول إلى الأحياء الشعبية واتسمت برفع شعارات اجتماعية على أمل تحقيق “القرب” من “الجماهير” ومحاولة اجتذاب الكتلة الحرجة. الثالثة هي مرحلة دفاعية كان هاجسها الأساسي هو محاولة إفشال الخطة الثلاثية للنظام (دستور جديد – انتخابات مبكرة – حكومة برئاسة “إسلامية”). الرابعة هي مرحلة السعي لضمان استمرار وجود الحركة في الشارع رغم الأمل الذي خلقه صعود الإسلاميين إلى الحكومة، لدى قطاعات مهمة من المجتمع، في حصول تغيير حقيقي. الخامسة هي مرحلة انسحاب العدل والإحسان، وتراجع مجموعة من “الداعمين”، وحصول إجهاد عام في جسد الحركة.

عند انطلاق حركة 20 فبراير، كانت، موضوعياً، مؤهلة، في نظرنا، لتحقق أكثر مما حققت. ومع ذلك فلا يمكن الزعم بأنها لم تحقق شيئا مهما.

لقد خلقت هزة سياسية كبرى في المغرب، وصلت ارتداداتها إلى العديد من المؤسسات والأبنية الحزبية والجمعوية والإعلامية والرسمية، وصنعت الحدث، ودفعت الكثيرين إلى إعادة البحث عن مخارج جديدة للوضع السياسي وإلى مراجعة تصوراتهم عن الشباب المغربي وعلاقته بالسياسة وعن مقولات العزوف وموت السياسة. وتَوَفَّرَ نشطاء الحركة على قدر كبير من المهارة والإبداع النضالي في الشارع، وساهمت أنشطتهم في توسيع دائرة التسييس والوعي بشرعية الاحتجاج، وإسقاط بعض المحرمات، وهدم جدار الصمت والخوف، ومحاكمة لغة الخشب، والانتباه إلى أهمية المسألة الدستورية، وعلاقة السلطة بالمال، ودور الأجهزة الاستخباراتية. وحَرَّرَتِ الحركة العديد من الطاقات وأعادت الاعتبار لدور الفن في حلبة الصراع من أجل التغيير.

لقد فرضت الحركة على النظام إعادة النظر في الخطط التي سبق أن أعدها والتي كان مطمئنا إلى توفر ظروف تنزيلها على الأرض وعدم وجود قوة سياسية قادرة على مقاومتها وإسقاطها.

اضطر النظام إلى تقديم تنازل “استراتيجي”، في نظره، تَمَثَّلَ في وضع دستور جديد، بعد أن كان مقتنعاً بعدم وجود ما يجبره على ذلك، وبأنه يمارس الحكم بسهولة ويسر، في محيط منقاد وطيع.

ورغم ذلك، فإن حركة 20 فبراير لم تستطع فرض مسار حقيقي للانتقال الديمقراطي الذي حلم به شاباتها وشبانها المؤسسون.

ويعود الإخفاق في تحقيق هذه المهمة، في نظرنا، إلى عوامل متعددة؛ بينها عامل نعتبره أساسياً وجوهرياً.

فمن بين العوامل، هناك الحذر الذي أبدته قطاعات واسعة من المجتمع، إزاء الحركة، وبقاؤها في حدود الحراك النخبوي وليس الجماهيري الواسع، وعدم وقوع حدث داخلي مُؤَسِّس ومُحَفٍِّز للتحرك ومُوَلِّدٍ للغضب، وعدم توفر لحمة عضوية قوية تجمع مكونات صف الداعمين المفترضين أو الفعليين، وتعثر المسار الثوري في “المحيط”، وعدم تمكنها من إفراز قيادة وطنية موحدة و”معترف بها”، واستمرار قدرة النظام على استخراج أوراق جديدة واستقطاب المزيد من النخب وامتلاكه لقنوات تواصل وعلاقات خاصة مع أغلب الفاعلين تتيح له إمكانية تحييدهم في اللحظات الحرجة ومنع انضمامهم إلى دينامية للتغيير مثل تلك التي دشنتها حركة 20 فبراير..إلخ.

أما العامل الأبرز فهو غياب رؤية موحدة للتغيير المنشود لدى الأطراف المشاركة، فعلياً، وبشكل نشط وحَيٍّ، في حراك 20 فبراير. هذه الأطراف تتوزعها ثلاثة تصورات للتغيير (الثورة الطبقية – الثورة الدينية – الانتقال إلى الملكية البرلمانية)، ولهذا تم الاكتفاء برفع شعار مهم ولكنه، إلى حد ما، يتسم بالسلبية، فإسقاط الاستبداد لا يكفي، وحده، للدلالة على طبيعة البديل السياسي الذي ينشده المشاركون في الحراك.

وفي النهاية، نجح النظام في الخروج من المأزق بأقل الخسائر الممكنة، وتَمَكَّنَ تدريجياً من استرجاع المبادرة وتجنب التحول نحو الديمقراطية. وفَشَلُ حركة 20 فبراير في فرض تحقيق هذا التحول لا يعني موت “روح” الحركة. لقد ظلت هذه الروح حية في نفوس الكثير من المواطنين المغاربة، تحفزهم على التدخل والاحتجاج على القرارات والممارسات الظالمة والتنديد بمختلف أنواع الانتهاكات والنزول إلى الشارع لإسماع صوتهم (الوقفات الاحتجاجية ضد منح العفو لـ “مغتصب الأطفال” دانييل كالفان، مثلاً)، وظلت تُلْهِمُ الكثير من المناشط الفنية والإبداعية والأدبية، وتُرَسِّخُ فكرة رفض التطبيع مع الفساد والاستبداد ورفض الاستسلام لهما.

إن حركة 20 فبراير، حسب النصوص الأصلية الصادرة عنها من طرف نواتها الأولى في الفضاء الافتراضي، كانت تريد الوصول إلى انتقال ديمقراطي، في المغرب، يشبه الانتقالات الديمقراطية التي عرفها العالم.

وهكذا إذا أخذنا، مثلاً، وثيقة مطالب الشعب العشرين، نجد أنها تنص على ضرورة حل الحكومة والبرلمان وإلغاء الدستور (طي صفحة الماضي)، وتشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة (سلطة الانتقال الديمقراطي)، وانتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور الملكية البرلمانية (وثيقة متوافق عليها)، والإفراج عن السجناء السياسيين وإغلاق المعتقلات السرية واحترام حق التجمع والتظاهر والتعبير (الانفتاح السياسي)، ومحاسبة مقترفي الجرائم الاقتصادية والسياسية (العدالة الانتقالية)، وحل المجالس والصناديق والهيئات المشكلة من طرف النظام، والزيادة في الأجور وإحداث صندوق التعويض عن البطالة ووضع برامج للتشغيل الواسع…إلخ (الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي).

ومثلما ضاعت الفرص قبل 2011، ضاعت فرصة أخرى للانتقال، في 2011، وكان للنخب التقليدية، في بلادنا، نصيب في حصول هذا الضياع.

والنظام الذي قدم بعض التنازلات والالتزامات، أثناء مرحلة صعود الحراك، عاد إلى التحلل منها، تدريجياً، بعد خفوت حركة 20 فبراير في الشارع، وتَصَرَّفَ في ما بعد، كأنه نادم على ما قدمه من وعود وتعهدات، وأحس بأنه بالغ في تقدير خطورة الوضع وقوة الحراك وجدية النتائج التي كان يُفترض أن تسفر عنها موجة الانتفاضات التي هزت المنطقة العربية والمغاربية.

وتُعتبر المقتضيات الجديدة الواردة بدستور 2011، من بين أبرز الالتزامات التي جرى التنصل منها، وعمد النظام إلى إتيان سلوكات واتخاذ قرارات مناقضة لما جاء في تلك الالتزامات، كأنها غير موجودة، أصلاً، في الدستور أو أن وجودها لا يمنحها أية صفة إلزامية، وذلك بالرغم من أن الإيجابيات المحدودة لدستور 2011 لا تُحَوِّلُهُ إلى دستور ديمقراطي، لكن طريقة التسويق له من طرف النظام، وجزء كبير من النخبة، جعلت منه خدعة بالحق والحقيق!

طريقة وضع الدستور وطريقة إجراء الاستفتاء، لوحدهما، تكشفان عن نوايا الحاكمين.

الملك هو الذي عَيَّنَ كامل أعضاء لجنة المراجعة الدستورية، وهو الذي حدد لها أجل عملها، أي تاريخ الشروع فيه وتاريخ الانتهاء. وهو الذي حدد، مسبقاً، الأفكار والمحاور الأساسية التي يجب أن يتضمنها النص الجديد ومسطرة عمل اللجنة. واستُبعد من تشكيلتها أي دستوري(ة) سبق له أن نادى، في الساحة العامة، بإقرار نظام الملكية البرلمانية في المغرب.

وبما أن النظام المذكور هو صيغة التوفيق الوحيدة بين الطابع الوراثي للملكية والقواعد المتعارف عليها للديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، فإن معنى ذلك أن النظام لم يكن يقبل، قط، بتدشين مسار الانتقال إلى الديمقراطية، بل عمل على إدخال بعض التحسينات المحدودة على السير المؤسسي، كجواب على حراك الشارع، والحفاظ على جوهر النظام وبنيته العامة.

ومَثَّلَتْ طريقة إجراء الاستفتاء على الدستور دليلاً إضافياً على غياب الإرادة السياسية الضرورية في كل انتقال ديمقراطي.

تمت تعبئة المساجد والمؤسسات العمومية لدعوة المغاربة إلى التصويت بنعم، وتقديم هذا النوع من التصويت على أنه واجب ديني ووطني، ونُظِّمَتْ مظاهرات “مضادة” لمنع معارضي الدستور، مادياً، من التعبير عن موقفهم. وككل الاستفتاءات المغربية، تعامل النظام مع استفتاء فاتح يوليوز 2011 على أنه استفتاء على الملكية، وبالتالي جَرَّدَ الحملة الخاصة بالاستفتاء من أهم المقومات التي تنبني عليها حرية الاختيار والتعبير.

دستور 2011 يتضمن بعض الإيجابيات، طبعاً، (دسترة المنهجية الديمقراطية – احتكار البرلمان للتشريع – توسيع مجال القانون – ترسيم الأمازيغية..إلخ)، ولكن في الإجمال، نلاحظ أنه صِيغ بطريقة تُوحي بأنه منح العديد من الحقوق، وحسم، بطريقة إيجابية، الكثير من الإشكالات (فصل السلطات – ربط المسؤولية بالمحاسبة – تكليف الحكومة بممارسة السلطة التنفيذية – السيادة للأمة – استقلال القضاء…إلخ)، ولكن الحقيقة غير ذلك.

نجد في الدستور، من الناحية الإنشائية، كل الحقوق المتصور وجودها في دستور ديمقراطي، وكل المصطلحات التي تقوم عليها دولة القانون، ولكن البنية المؤسسية العامة التي يقترحها، وكثرة الاحترازات والشروط التي يقيد بها الحقوق، والتناقضات التي يقوم عليها، تجعل تلك المصطلحات بلا معنى وما يُمنح بيد يُسحب باليد الأخرى.

في البداية، انخدع الكثيرون بظاهر النص، ومع مضي الوقت أدركوا أنه بعيد عن مقومات الدستور الديمقراطي، وأن المعركة من أجل دستور يحمل حقاً وصف الديمقراطي مازالت مستمرة.

لم يعد من الممكن، اليوم، إخفاء الاختلالات العميقة والجوهرية التي يحملها دستور 2011، ولعل أبرزها :

  • استمرار اتساع مجال السلطة الملكية المتدخلة، بقوة، في القرار، وفي تركيبة المؤسسات، وذلك عبر تحكم الملك في سير مجلس الوزراء، وخضوع مجلس الحكومة للتوجهات التي يسطرها مجلس الوزراء بحضور وتأثير الملك، وتبعية الوزراء للملك، وخاصة من خلال آلية الإعفاء، ورئاسة الملك لعدد كبير من المؤسسات الدستورية (مجلس الوزراء – المجلس الأعلى للسلطة القضائية – المجلس العلمي الأعلى – المجلس الأعلى للأمن)، وتعيينه لنصف أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم الرئيس، وتعيينه عملياً لنصف عدد أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
  • منح الملك سلطاً جديدة، وأخطرها، على الإطلاق، حقه في التقدم أمام البرلمان بطلب مراجعة بعض بنود الدستور بدون استفتاء.
  • ترك بياضات خطيرة (فشل رئيس الحكومة المعين في تأليف الحكومة – عدم الحصول على تصويت أغلبية النواب على الحكومة بعد تشكيلها لأول مرة – انسحاب حزب رئيس الحكومة منها وشغور منصب رئيس الحكومة..)
  • إهمال التنصيص على مقتضيات وقواعد الحكامة الأمنية وحرية المعتقد والدولة المدنية.
  • التباس وظيفة الملك كرئيس للمجلس العلمي الأعلى.
  • اشتراط خضوع إعمال المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء إلى ما يضعه المشرع العادي من قيود، أي، عملياً، هناك تكريس لوضع قائم، ولم نتقدم قيد أنملة في هذا المجال.
  • اشتراط خضوع سمو المواثيق الدولية، المصادق عليها من طرف المغرب، على القانون الداخلي، إلى ما يقرره القانون الداخلي نفسه (!؟) الأمر الذي يمثل نوعاً من التناقض الصارخ والكلام الذي ليس له أي معنى، من الناحية القانونية، والذي يمثل نوعاً من الضحك على ذقون الناس!

لقد بذلنا مجهوداً كبيراً في إبراز وعرض نواقص الدستور واختلالاته، لحظة ظهوره، وجاء تطور الأحداث ليؤكد سلامة تحليلاتنا، ففي حالة فشل رئيس الحكومة المعين في تشكيل الحكومة، وإصراره على عدم تقديم استقالته نصبح أمام مأزق حقيقي يفرض إعادة إجراء الانتخابات إذا أردنا تجنب خرق الدستور.

الصيغة التي اقترحناها كحزب اشتراكي موحد، في مذكرتنا الدستورية، تجنبنا الوقوع في المأزق، لأن رئيس الحكومة الذي يعينه الملك هو الشخصية التي يتبين من خلال الاستشارات التي يجريها رئيس مجلس النواب، مع ممثلي الأحزاب والكتل الممثلة في المجلس، أنها تحظى بمساندة أكبر تكتل لأعضاء مجلس النواب. أي أن التعيين يتم بعد أن تنتهي المفاوضات بين الأحزاب وليس قبلها. واقترحنا أيضاً النص على منح رئيس الحكومة المعين أجل شهر لتقديم تصريح حكومته أمام مجلس النواب. والمفروض أن الأحزاب السياسية تعلن، قبل الانتخابات، عن الأحزاب التي ستتحالف معها لتأليف الأغلبية. كما اقترحنا تمتيع الملك بحق إعفاء الحكومة إذا اقتضت الظروف السياسية ذلك، والظروف التي استُحضرت، أثناء صياغة الاقتراح، هي، أساساً، الحالة التي تندلع فيها ثورة ضد الحكومة، وتنتشر في مختلف أنحاء البلاد دعوات إلى إسقاطها، على أساس، طبعاً، ألا يحل الملك محل الحكومة ويباشر القيام بأدوارها بل يترك لمنطق صناديق الاقتراع أن يتدبر الوضع الناجم عن إعفاء الحكومة.

وبصدد المسألة الدستورية، نود التأكيد على أن الدستور، من أجل أن يكون ديمقراطياً، يجب :

  • أن تكون عباراته واضحة وصياغته خالية من اللبس والإبهام.
  • أن يكون هناك انسجام في بنيته، وتكامل بين شق الحقوق وشق تنظيم السلط.
  • أن يخضع تنظيم السلط إلى المعايير الديمقراطية المعروفة (السيادة الشعبية – فصل السلطات – مؤسسات قائمة على الانتخاب الحر والتعددي والضامن للتداول – الضمانات القانونية والفعلية للحق في التعبير والتنظيم والتجمع ومجمل الحقوق والحريات الواردة في الصكوك الدولية).

أُسندت رئاسة الحكومة، المنبثقة عن انتخابات 2011، إلى رئيس حزب إسلامي يشارك، لأول مرة، في الحكومة.

كانت حكومة بنكيران تجسيدًا لصيغة تلتقي فيها مصالح النظام مع مصالح الإسلاميين. النظام كان محتاجا إلى إخماد الحراك، وحزب العدالة والتنمية كان محتاجاً إلى تطبيع علاقته بالنظام وتقوية نفوذه داخل جهاز الدولة وداخل المجتمع، علما بأن الحزب عُرِفَ، دائماً، بشهية، لا حدود لها لشغل كل مواقع التسيير المتاحة بأي ثمن، ولطالما ساهم في تسيير الكثير من الجماعات الترابية ولو بواسطة عقد بعقد تحالفات مع الأطراف التي يعتبرها موغلة في الفساد.

الحزب لم يكن منشغلاً بما إذا كان سينجح، أم لا، في إصلاح أوضاع البلاد كما وعد بذلك الناخبين، إذ كان يعلم مسبقاً بأن الوسائل تعوزه، فضلاً عن كون تصوره “للإصلاح” هجين وسطحي ومعطوب، ولكنه كان منشغلاً، أكثر، بضمان فرص تعزيز مكانته وتواجده في الفضاء المؤسسي والفضاء المجتمعي.

ارتضى حزب العدالة والتنمية، رسمياً، عدم المشاركة في حركة 20 فبراير، واصطف إلى جانب المخزن وساعده في إضعاف الحركة مقابل المقاعد الحكومية ولو بتعليق مطلب التغيير وإعاقة الانتقال الديمقراطي. وصَوَّتَ الحزب بنعم على دستور يعلم بأنه لا يترك للحكومة حيزاً كافياً للحركة ولإعمال تصورها وتنفيذ برامجها وضخ نفس إصلاحي حقيقي في المؤسسات، وأكد، بذلك، أن الأسبقية، لديه، هي دفع النظام لحل مشكلته مع الحزب وليس دفع النظام لحل مشكلته مع الديمقراطية ومشكلته مع الحاجات الحيوية للشعب.

تَمَّ فرض وجود وزراء السيادة وتوسيع دائرتهم -بشكل مباشر أو مُقَنَّعٍ- وتعزيز طاقم المستشارين الملكيين بشخصيات وزارية سابقة. وتَكَفَّلَ الملك، منذ البداية، برسم المربع الذي تتحرك فيه الحكومة التي كان وزراء الحزب فيها لا يتحكمون إلا في أقل من 8 في المائة من الميزانية العامة.

في بداية عمل الحكومة، حاول رئيسها الاستباق بإعطاء الوعود ومحاولة الإيحاء بأن تحولاً جوهرياً هو قيد الحدوث في المغرب، وبأن قطار التغيير قد انطلق. ولكنه، بعد مرور بعض الوقت، انكفأ إلى الوراء، عند أول مواجهة له مع مجموعة من مدراء القطاع السمعي البصري، ودخل طريق التسويات والتراجعات وقبول الأمر الواقع، دون أن يتوقف عن ترديد خطاب مفاده أن قناعته الدينية تفرض عليه واجب السمع والطاعة لأمير المؤمنين، وأنه كرئيس للحكومة مكلف فقط بالمساعدة وتقديم المشورة والرأي، على أن يكون القرار الأخير للملك.

خرج حزب من الحكومة، والتحق بها حزب آخر كان “معارضاً” لها، ضمن أجندة للنظام، بدون أية صعوبة، وجرى، من خلال ذلك، التأكيد مرة أخرى أن الحكومة المغربية أبوابها مشرعة، وهي أشبه بحكومة ائتلاف دائمة، يمكن أن يدخلها أي حزب وأن يخرج منها حزب كان يبدو أنه أساسي في تشكيلتها ومنطقها السياسي.

وبعد إعلان نتائج الانتخابات الجماعية لـ 2015، وحصول الحزب على أغلبيات مطلقة في المدن الرئيسية في البلاد، اعتبر بأن فوزه في 2016 مؤكد، وبالتالي لم يعد هناك أي عائق يمنعه من اتخاذ أكثر القرار إيلاماً للجماهير الشعبية، ومن إبداء نوع من الصلف في الدفاع عن “هيبة الدولة” والحديث عن “الفتنة” ومواجهة الاحتجاجات وتمرير “إصلاح” التقاعد.

أحس الإسلاميون الحكوميون بأنهم نجحوا في استمالة الناخبين وأن عليهم، الآن، الانتقال إلى السرعة القصوى، في سباق استمالة النظام وتنفيذ أي أمر يرضيه ويخدم مصالحه، وقبلوا نوعاً من “الوضع رهن الإشارة”.

ولم ينتفض بنكيران إلا بعد أن لاحت في الأفق بوادر مناورات انتخابية محتملة لضمان فوز حزب الأصالة والمعاصرة بالرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، وظهر بأن من مفارقات الوضع الحكومي القائم هو أن رئيس الحكومة، نفسه، لا يستطيع ضمان نزاهة الانتخابات، ولا يستطيع تأمين عدد من الحقوق الانتخابية حتى لحزبه، وأنه يجهل الطريقة التي ستتعامل بها الإدارة الترابية مع المحطة الانتخابية لـ 2016.

خلال خمس سنوات، انخرط الحكوميون الإسلاميون، بدون تردد وبإصرار شديد، في مسعى إقناع النظام بأهليتهم لتعويض النخب التقليدية التي اعتمد عليها في الماضي، وقدمت حكومة بنكيران للبنيات القائمة ما لم يقدمه لها أحد من قبل، وتَلَقَّى النظام، منها، الهدايا تلو الهدايا. ووجهت الحكومة ضربات قاصمة للحركة النقابية في القطاع العام، ولحركة المعطلين، ولم يُسجل، في عهدها، أي تطور نوعي محسوس في فرص الشغل المتوفرة، وتحللت من تعهدات رسمية سابقة، وهادنت المفسدين، وزَكَّتِ القمع واعتبرت أن “أعداء الدولة” هم أعداء الحكومة، أيضاً، وعالجت ملفات التقاعد والمقاصة، وملفات أخرى، بالطريقة التي تخدم النظام، واعتبرت نفسها غير معنية تماماً بتتبع أو معرفة كل ما له علاقة بالصحراء والأمن والإرهاب وبأداء الأجهزة الأمنية وسير الأوراش، غير آبهة بضرورة انسجام بنية البرنامج العام للدولة، وبانعكاسات سير قطاع ما على القطاعات الأخرى، ومنحت المقاربات القمعية والاعتداءات على الحريات كل أشكال التسويغ واعتبرتها، في الكثير من الأحيان، ضرورية ولازمة، ومنحت الحصانة لمصادر التجاوزات.

وتَمَّ التأكيد، أكثر من مرة، على غياب أية نية لدى رئاسة الحكومة، للدفع بالمغرب في اتجاه الملكية البرلمانية، وَوُضِع مشروع مسودة للقانون الجنائي يمنح النظام أدوات قانونية إضافية لقمع الحريات ويحشد أغلب حالات عقوبة الإعدام في خانة جرائم أمن الدولة، ويُوَسِّعُ مناط جرائم الإرهاب لتمكين السلطوية من متابعة خصوم سياسيين سلميين بجرائم الإرهاب.

ودستور 2011، على علاته، تعرض للتجميد، على أكثر من صعيد، وهو ما يكاد يجمع عليه الباحثون المغاربة. البعض حَمَّلَ المسؤولية لرئيس الحكومة، وحده، والواقع أننا لاحظنا وجود نوع من التوافق على التجميد بين كل من رئاسة الحكومة والنظام.

رئيس الحكومة يتوسل، في الرد على كل من يتهمه بالزهد في ممارسة صلاحياته، إلى مقولة تجنب أي اصطدام مع الملكية، وبالتالي فهو يعبر عن رغبته في استمرار التشبث بذات التقاليد التي يقوم عليها الحكم، والتي لا يمكن، في نظره، لدستور من الدساتير أن يغيرها أو يعدلها، ولأن المغاربة لم يطالبوا أحداً بالحياد عنها.

الحكومة أعدت مشاريع القوانين التنظيمية بعقلية ما قبل 2011، فاعتبرت أن إعداد بعضها يجب أن يشارك فيه الديوان الملكي، وأدخلت في دائرة المؤسسات “الاستراتيجية”، التي يجري تعيين مسؤوليها من طرف مجلس الوزراء وليس مجلس الحكومة، بعض المؤسسات التي لا يُعقل أن تُوصف بالاستراتيجية، وذلك في إطار سباق محموم لكسب ود القصر وإظهار الاستعداد لقبول أي شيء من أجل البقاء.

بنكيران وضع التوافق مع الملكية بديلاً عن الدستور، لأن كسب ثقة الملكية أهم، في نظره، من الدستور وأسمى من الدستور.

وعرفت الثقافة التقليدية، التي يُفترض أن النص الدستوري جاء ليقلص بعض الشيء من مداها، مزيداً من التجذر والرسوخ، في عهد الحكومة التي شارك الإسلاميون فيها.

ورئيسها انطلق، دائماً من فكرة مؤداها أننا نحل المشاكل بـ “السياسة”، وليس بالمساطر والنصوص، وأن المهم هو حل المشاكل.

وفي النهاية، لا هو حَلَّ المشاكل، ولا هو حرص على تطبيق المساطر والنصوص، إن نظرته البراغماتية الزائدة تؤدي، عملياً، إلى احتقار الديمقراطية وتبخيس قيمتها.

ورغم أن الملك سبق له أن أوصى باعتماد “التأويل الديمقراطي للدستور” في خطاب 30 يوليوز 2011، فإن الاستمرارية المتحررة، في الكثير من الأحيان، من إكراه تنفيذ النص الجديد هي التي كانت لها الغلبة (الاتصال المباشر بالوزراء – وظيفة الخطب الملكية كمصدر للبرامج – النظر إلى الحكومة كمتلقية، فقط، للتعليمات الملكية – خطاب الإعلام العمومي عن الملك باعتباره واضع البرامج التي تهم المسيرة التنموية – الغضبات الملكية – قضايا الأمن والعلاقات الخارجية والصحراء ظلت مجالاً محفوظاً للملكية – الزيارات الملكية إلى بلدان مختلفة وإشراف المستشارين على عقد اتفاقات “استراتيجية” ليس هناك ما يفيد بأنها كانت موضوع تداول حكومي أو حتى مجرد مواكبة أو متابعة أو استعلام – الرعاية المباشرة لملف “إصلاح العدالة”..).

استمر النظام في ممارسة التقليد الذي يفيد، عملياً، بأن “برنامج الدولة” هو “البرنامج الملكي”، حيث يُعرض في الخطب الرسمية من خلال تفاصيل مرقمة ومقتضيات مفصلة، أحياناً، تهم، مثلاً، قطاعات البادية والجماعات الفقيرة، ومن خلال مشاريع ومبادرات جديدة، بدون أي إحساس بأن وجود دستور جديد وحكومة جديدة، يفرض تغيير هذا التقليد ومنح الحكومة حق التدخل في تقرير ذلك البرنامج أو تعديله وملاءمته مع مقتضيات البرنامج  والتصريح الذين سبق لها الإعلان عنهما.

وقدم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية قراءة جديدة للدستور، عملياً، من خلال القول إن البيعة التي تربط أمير المؤمنين برعاياه، تمثل العقد الأصلي والأسمى، وهي القراءة التي تعيد الحياة إلى الفصل 19 في الدستور السابق.

وحين نتفحص -في الحزب الاشتراكي الموحد- الحصيلة الاقتصادية لحكومة بنكيران نجدها بعيدة عن الإصلاحات التي كانت تستلزمها المرحلة وتفرضها العناية بالشرائح الفقيرة والمتوسطة في المجتمع، وتتمثل مظاهر هزال الحصيلة في :

“- تجاهل الإصلاحات المتعلقة، مثلاً بمراجعة سياسة الانفتاح على الخارج أو إعادة العمل بالمخططات الاقتصادية.

  • التخلي، بشكل كلي، عن محاربة اقتصاد الريع والفساد وإفراغ الإصلاح الجبائي من مضمونه بحيث أعاد إنتاج نفس الأعطاب وأهمها غياب العدالة الضريبية.
  • تشويه إصلاح نظام المقاصة من خلال طابعه الجزئي وعدم مواكبته بإجراءات بديلة في مصلحة الشرائح التي كان يستهدفها نظام الدعم في الأساس.
  • فرض إصلاح نظام التقاعد بطريقة مستبدة وعلى حساب مصالح الأجراء وفي غياب تحديد المسؤوليات عن الوضعية الصعبة التي آلت إليها معظم أنظمة التقاعد.
  • النتيجة ذاتها : استمرار مؤشرات التنمية في التدهور، وقفز المديونية العمومية إلى مستويات قياسية.
  • الاقتصاد الوطني ازداد اندماجا بالاقتصاد الرأسمالي، عبر نمط الليبرالية المتوحشة. وهكذا نلاحظ أن الثروات تزداد، لكن مردودها يتجمع بين يدي فئة ضئيلة من أصحاب الامتيازات الخاصة الممثلة في المخزن وبطانته والسماسرة والمنتفعين”.

بعض الذين يدافعون عن تجربة الإسلاميين في الحكومة يذهب إلى أن هؤلاء تصرفوا كسياسيين يرومون حل مشاكل المواطنين وليس كرجال دعوة وحملة إيديولوجية دينية.

لكن الواقع يثبت العكس تماماً.

فبمناسبة إعـداد دستور 2011، لم يتردد قادة الحزب، الذي سيرأس الحكومة في ما بعد، في التصريح بأنهم تدخلوا لحذف الإشارة إلى حرية المعتقد من نص المشروع الأصلي، واعتبروا أن صنيعهم هذا فرضه عليهم واجب حماية الإسلام، لأن التنصيص على تلك الحرية قد يُستعمل من طرف البعض للمس بالدين الإسلامي وزعزعة المكانة المهيبة التي يشغلها في كيان الأمة والمجتمع.

وفي معرض الدفاع عن مضامين مشروع مسودة القانون الجنائي، قال وزير العدل في الحكومة، إنه لاحظ بأن القانون يفرد الحماية للوطن وللملك، ولكن الله غير محمي، ولهذا اعتبر الوزير الإسلامي أن المشروع حمل على عاتقه مهمة حماية الله، ضمن مهام أخرى، كما لو أن الله، عز وجل، كان ينتظر أن يتحمل الإسلاميون المسؤولية في الحكومة ليضمنوا حمايته، وأنهم قرروا سد هذا النقص ابتغاء مرضات الله حتى يجزل لهم الثواب يوم القيامة.

والحقيقة، أنهم أحرص على نيل رضى الناخبين، عن طريق ترويج مقولات مغرقة في الشعبوية الدينية البدائية، والتي يحاولون من خلالها الإيحاء بأنهم الأقرب إلى الله.

صحيح أن حكومة بنكيران واجهتها عدة “معارضات”، وأهمها كانت من داخل النظام، وغايتها إضعاف الحكومة لفائدة السلطوية، رغم الخدمات الجيدة التي قدمتها هذه الحكومة للنظام.

وجود الإسلاميين في الموقع الحكومي، لم يشكل أي خطر على النظام وعلى اختياراته، بل إنه كان مصدراً لحل الكثير من مشاكل النظام ولتمرير المشاريع اللاشعبية التي لم تجرؤ أي من الحكومات السابقة على تمريره، ولذلك جنى النظام من ذلك الوجود فوائد جمة ومحققة، واستخلص منه ربحاً وفيراً، وتَمَكَّنَ، بواسطته، من إضعاف حركة في الشارع مطالبة بالديمقراطية بدون أن يحقق الديمقراطية، ويخرج سالماً من الاختبار، بل ينجح في تقوية قواعد اللعب القائمة منذ عقود، ومنحها عمراً جديداً وشرعية جديدة تحت اسم “الاستثناء المغربي” ومحاولة “تجميلها” في أعين الناس.

التجربة الإسلامية في الحكومة حاولت التقرب من النظام وخدمته وتوطيد العلاقة به وبناء حلف مقدس معه، من منطلق التقارب الإيديولوجي والسياسي القائم بينهما، ولكنها، مع ذلك، كانت تجربة مزعجة بسبب عاملين اثنين :

  • الصعود الانتخابي المتزايد للحزب والخوف من الآثار النفسية لتبلور شرعية انتخابية قد تضعف موضوعياً الشرعيات الأخرى.
  • شخصية رئيس الحكومة الذي يلعب لعبة مزدوجة، لأنه يطالب بحق احتكار خدمة “التحكم”، ويطالب عملياً بتخلي النظام عن الأدوات الأخرى لخدمة “التحكم”. إنه زعيم يمارس، من داخل الحكومة، “معارضة” ضد جزء من امتدادات النظام نفسه، ويبني شعبيته على المظلومية، وبالتالي فرغم ولائه للنظام فإن حديثه المستمر عن التماسيح والعفاريت والعوائق التي تواجهه وتمنعه من تحقيق الإصلاح، يوقع النظام في موقف حرج.

هناك معارضة مزيفة تريد هدم بنيان التجربة الحكومية خدمة لـ”التحكم” والسلطوية، ومعارضة تنتقد التجربة لأنها –أي التجربة- في الأصل متواطئة مع السلطوية و”التحكم”. المعارضة الأولى تريد أن تحل محل التجربة القائمة، في إطار تنافس على الخدمة، وهي تعارض الحكومة خدمة للحكم. والمعارضة الثانية، التي نعتبر أنفسنا كحزب وكفدرالية نواتها الأساسية، تريد الوصول إلى التغيير، وتعارض الحكومة والحكم معاً.

قبل حلول موعد الانتخابات، لُوحظ أن نهج السلطوية دخل مرحلة هجوم كبير، وتَلَقَّى جرعة إنعاش باسم “الاستثناء المغربي”، وبواسطة تخويف الناس من آثار أي نضال ضد الفساد والاستبداد.

لقد حاول النظام إقناع المغاربة بأنهم يتمتعون بامتياز ليس له ثمن، وهو العيش في كنف الأمن والطمأنينة والاستقرار، بينما البلدان التي عرفت ما سُمِيَّ بالربيع العربي تتلظى في جحيم الاقتتال والفتنة والصراعات المسلحة والفوضى العارمة والتشتت والتقسيم والدمار.

وبالتالي، فإن “الحكمة” تقتضي منا القبول بالأمر الواقع، والتنازل عن حق الاعتراض والاحتجاج والنضال لتحسين الأحوال العامة، أي التنازل عن الديمقراطية، فليس هناك وضع أحسن من هذا الذي نرفل فيه، وعلينا الاختيار بين هذا الوضع أو الدمار، وليس هناك اختيار ثالث !

لكن “الاستقرار” الذي نعيشه هَشٌّ للغاية، ولا أدل على ذلك من المعطيات الإحصائية الخاصة بمؤشرات التنمية البشرية ومن دلالة خطاب الملك عن الثروة. وإذا ظلت الأوضاع كما هي عليه في بلادنا، فإن ذلك قد يقود إلى كارثة حقيقية.

لا تتوفر في بلادنا، إلى حدود اليوم، شروط ومقومات الاستقرار الحقيقي. لا يعني هذا أننا نستهين بقيمة أي قدر من الاستقرار يتوفر لنا، في مرحلة من المراحل، ولكن “الاستقرار” القائم ببلادنا لا يُخَوِّلُنَا حق الحديث عن “استثناء مغربي”، وهو الشعار الذي تُسَوِّقُهُ صباح مساء كتلة منظمة مشكلة من نخب وكتائب إعلامية ومحللين سياسيين. الاستثناء الحقيقي هو الديمقراطية والحكامة الجيدة، فهل بدستور يكرس الاستمرارية وحكومة لا تحكم نمثل استثناء.

جرت الانتخابات في ظل مؤشرات عامة وكثيفة، تفيد بحتمية إغلاق قوس التناوب الثاني كما أُغلق قوس التناوب الأول، وانتشار حمى الخطابات المستحسنة للسلطوية، كما مُورست وتُمارس في المغرب، والمُذَكِّرَةِ بـ “فضائلها” وبالدين الواقع على جميع المغاربة حيال النظام لأنه بحنكته ورزانته وبعد نظره أنقذهم من مآل شبيه بما يحصل في بلدان “الربيع”، جرى تنظيم انتخابات 2015 و2016.

تدخلت أجهزة الإدارة الترابية لفائدة “حزب الدولة الأثير”، ساعتئد، عبر سلسلة من العمليات التي تراوحت بين الدعاية المباشرة لفائدة التصويت عليه، أو اتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات الهادفة إلى تحسين وضعه الانتخابي في المنافسة، بطريقة غير مباشرة، والتقليل من حظوظ خصومه، لضمان فوزه بالرتبة الأولى أو حصوله على عدد من المقاعد النيابية يفوق المائة، ويعطي الانطباع بأننا أمام قطبية ثنائية وحزبين قويين متعادلين. لكن أحدهما يتفوق على الآخر بنوع العلاقة التي استطاع أن يقيمها مع بقية الأطراف السياسية الأخرى والتي تجعلها، في آخر المطاف، الأقرب إليه.

لم تكن العمليات المتعلقة بتسجيل الناخبين ووضع التقطيع وإيداع الترشيحات وخريطة المكاتب الانتخابية، محايدة وبريئة، بل كانت مُسْتَنْفَرَةً لخدمة جهة معينة.

ورغم ضعف الإمكانات التي تَوَفَّرَتْ عليها فيدرالية اليسار الديمقراطي، فإنها نجحت في جعل الحملة الانتخابية لـ 2016، تجري، من الناحية السياسية، في ظل تقاطب ثلاثي، وحظيت بالتفاف جزء كبير من المثقفين المرموقين حولها، واسترعت الانتباه إليها بسبب مستوى نظافة حملتها، وسمو وسائلها، وحسن استخدام التقنيات الجديدة للتواصل الإلكتروني، وقدرتها على تعبئة جيل جديد من المتطوعين المساندين لمرشحيها.

والنتائج التي حصلت عليها الفيدرالية في المدن الكبرى تُعتبر مشجعة وواعدة، وتدل على أن هناك إمكانات حقيقية للتوفر، مستقبلاً، على عدد مهم من المقاعد، وخاصة إذا تمكنت الفيدرالية من البروز في الساحة السياسية وابتداع الآليات النضالية والمبادرات السياسية التي تجعلها أقرب إلى المواطنين ومرئية أكثر لدى شرائح الرأي العام، وإذا تمكنت من تعبئة المتعاطفين معها للتسجيل في اللوائح الانتخابية، وتجنب التأخر في انطلاق عمليات التحضير، والبحث الجيد عن المعلومة واستثمارها بشكل دقيق، وتحقيق مزيد من الانفتاح على الطاقات التقدمية النزيهة في عمليات الترشيح والدعاية، وتغيير طرق العمل توخياً للنجاعة والاستفادة من بعض التجارب الناجحة، فحيثما كان هناك تكوين جيد لنشطاء الحملة، وعقلنة وترشيد لطرق العمل، فإن النتائج تكون جيدة.

أكدت الانتخابات الأخيرة أن الأوراق التي استعملها النظام من أجل إضعاف بنكيران كان لها مفعول عكسي وساهمت في تقويته، كما أظهرت هذه الانتخابات استمرار اتساع الهوة بين حركية المجتمع وخارطة المؤسسات، وأدت إلى تقلص عدد الأحزاب الممثلة في مجلس النواب. وانضاف إلى المقاطعة، كفعل احتجاجي، نوع من التصويت الجديد على نموذج رئاسة الحكومة في وجهها “المعارض”، باعتباره تصويتاً تمردياً وعقابياً ضد خصوم رئيس الحكومة، حتى وإن لم يُوجدوا في الحكومة. هذا، علما بأن “معارضة” بنكيران لم تكن تنازع في الطابع غير الديمقراطي للأسس التي يقوم عليها الحكم في المغرب، بقدر ما كانت تنازع في شرعية الأطراف التي يستخدمها الحكم لتركيز تلك الأسس، وبالتالي فإن الصراع لم يكن قائما من أجل الديمقراطية، بل من أجل الحظوة. لقد نجح رئيس الحكومة في جعل خطاب المظلومية وسيلة لصرف الأنظار عن تقييم حصيلة الحكومة نظراً لهزالتها. مثل هذا الخطاب يمكن أن يجني منه صاحبه فوائد ظرفية، ولكنه عاجز عن تجنيب المعني بالأمر، بصورة دائمة، مأزق تحمل المسؤولية عن هزال الحصيلة.

هذا، وبالإضافة إلى كون الانتخابات الأخيرة، مثلها مثل سابقاتها، لازالت تجري، في المغرب، طبقاً لإطار دستوري يحرم المُنْتَخَبِين من سلطة التقرير الحقيقي، فإن وجود الإسلاميين في الحكومة لم يسمح بدخول المغرب عهد الانتخابات الحرة والنزيهة. فإذا كان بإمكان اليوسفي القول إن انتخابات 2002 كانت أقل سوءاً من الانتخابات التي سبقتها، من زاوية السلوك الإداري، فإن بنكيران لا يستطيع القول إن انتخابات 2016 كانت أقل سوءاً من انتخابات 2011.

لقد انتقلنا، عملياً، من “الحياد السلبي” إلى “عدم الحياد”. وإذا كان الإسلاميون يصرحون بأنهم كانوا الضحايا الأساسيين لهذا الانتقال، فإن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية، إذ المفروض أنهم وعدوا الناس بتحقيق تطور في المسار السياسي، وإلا فما الفائدة من المشاركة؟ كما أنهم سيظلون ملاحقين بسياط السؤال المؤرق التالي : إذا كنتم عاجزين، من الموقع الحكومي، حتى عن ضمان الحقوق الانتخابية لحزبكم، فكيف يمكن لكم، كما تَدَّعُون، تأمين مختلف حقوق المغاربة بأجمعهم؟

هذا، وجدير بالذكر أن الانتخابات الأخيرة في المغرب، كانت مناسبة لمحاولة الإيحاء بأن النقاش السياسي، في المغرب، يدور، في جوهره، حول خطين اثنين ويقوده معسكران كبيران : معسكر يقول عن نفسه إنه يقود لواء الإصلاح في بلادنا ويريده أن يكون إصلاحاً في ظل الاستقرار، ويتمنى تجميع الإصلاحيين خلفه لخوض هذه المعركة الاستراتيجية، التي يمثل المعسكر الآخر أكبر معرقل لها. ومعسكر يقول عن نفسه إنه يقود لواء الحداثة ويناهض الشعبوية ويريد كسر الأصفاد التي تمنع مجتمعنا وبلادنا من الانطلاق والنهوض والتجاوب مع منطق العصر، والتحرر من مظاهر التخلف، وهي الأصفاد التي يتحمل المعسكر الآخر مسؤولية المساهمة في توثيقها وإدامة وجودها خدمة لمصالح حزبية ضيقة وطمعاً في حصد أكبر عدد ممكن من الأصوات.

حزب العدالة والتنمية يرفع شعار الإصلاح ومقاومة “التحكم”، ولكنه لا يرى مانعاً في التحالف مع المفسدين ويعتبر ذلك ضرورياً ومنتجاً، وفي الاستناد إلى الأدوات والمساطر الفاسدة التي قادت إلى الفساد. فكيف يريد أن يجمع بين التحالف مع المفسدين والتحالف مع الإصلاحيين، ويريد، ضمنياً، إقناع الناس بأن الفاسد عندما يتحالف مع حزب العدالة والتنمية يصبح صالحاً، وعندما ينهي هذا التحالف، يعود إلى طبيعته الأصلية.

هذا التصور للإصلاح غريب جداً !

لما نزل الشباب إلى الشارع لإسقاط الاستبداد والفساد، تَصَدَّى لهم رئيس الحزب وشَكَّكَ في حركتهم ونواياهم وشيطنهم، في بداية نضالهم، وَوَجَّهَ إليهم أكبر طعنة في الصدر مدعياً أنه يستطيع الوصول إلى الإصلاح بـ “طريقته” الخاصة، ثم ظل، طوال خمس سنوات، يشتكي من الصعوبات التي تواجه مشروعه الإصلاحي، وهو الذي اعتبر، منذ البداية، أن الإصلاح غير محتاج إلى الديمقراطية، بل ذهب إلى حد التصريح بأنه ضد الملكية البرلمانية ولا يرغب في قيامها في بلادنا.

فلصالح من تَمَّ التدخل لإضعاف حركة 20 فبراير ولإخلاء الشارع من المطالبين بالإصلاح؟

القضية، في الأصل، لم تكن قضية إصلاح أو عدم إصلاح، بل القضية هي مجرد اقتراح صفقة على النظام، تجري على حساب حركة 20 فبراير ولحساب النظام والحزب الإسلامي، وتسمح لهذا الأخير أن ينعم بوضعية للقرب لم تُتح له في الماضي، وهو يعلم بأن هذه الوضعية لن تسمح بالوصول إلى الإصلاح الحقيقي، إلا إذا كان حزب ع.ت يعتقد أن الإصلاح يُختزل في مكانة هذا الحزب، فإذا تبنى النظام وجود الحزب في نسقه السياسي القائم، يكون بذلك قد تبنى الإصلاح !

كيف يتبنى الحزب شعار الإصلاح مجرداً من رافعته التنويرية، ولا يعتبر، بالتالي، بأن الإصلاح الديني، مثلاً، هو جزء أساسي من الإصلاح المطلوب في مجتمعاتنا.

كيف يمكن قبول الديمقراطية كآليات ورفضها كفلسفة أي تجريدها من روحها، والتعامل مع الآليات، نفسها، بطريقة مخلة بمبدأ عدم تجزئة الديمقراطية (تقديم السيادة الشعبية بديلاً عن الحريات مثلاً، واعتبار أن الأولى يمكن أن تعوض الثانية).

الحريات، في نظر إسلاميينا، يجب أن تتعرض للقضم والاقتطاع، لأن انتماءنا الديني يفرض ذلك، ولكل ديانة أن تختار ما تشاء من الحريات وتستبعد ما تشاء فهي حرة، وعلماء الديانة هم من يقرر في الأمر، كما لو أن الإنسانية، بمختلف دياناتها وعقائدها وتقاليدها وأوضاعها، لم تتوافق على حد أدنى ملزم للجميع.

إن من ينكر وجود هذا الحد الأدنى، إنما يستكثر على الإنسانية حق الوصول إلى صياغته.

ويأخذ حزب رئيس الحكومة بالرأي الأكثر محافظة والأكثر انغلاقاً، ويُسَوِّقُهُ بصورة واسعة كلما أحس بأنه سيجلب له المزيد من الأصوات، حتى ولو تجلى، من خلال سلوكات أعضائه اليومية، عدم اقتناعه بذلك الرأي. ويُثْقِلُ دفتر التحملات الديني، المفروض أن يلتزم به المغربي المسلم، بمظاهر مغرقة في التعسير والعنت، وافدة من ثرات الوهابية، للمزايدة على خصومه وعلى النظام، نفسه (تقييم أداء وسائل الإعلام السمعية البصرية على مستوى مدى أخلاقية هذا الأداء)، ويؤكد، باستمرار، على رفض المساواة بين الجنسين.

ويركز هذا الحزب على الاختلافات القائمة بين الديانات والحضارات، ويستعظمها، ويعتبر آثارها مدمرة وقاتلة، ويصنف الديانات عموديًا، ويهمل القواسم المشتركة بينها، وتتحول فكرة النظام العام، لديه، إلى مشروع سلطوي شمولي يفرض الوصاية على الناس ويبيح خرق حميميتهم، ويعتبر القوانين، وخاصة الجنائية منها، سلاحًا أساسيًا لضبط الأخلاق داخل المجتمع.

يرفع الشعارات، على سبيل المزايدة لا غير، وهو يعلم بأنها مستحيلة التطبيق، ويعفي نفسه من مهمة رفع وعي الجماهير في تعاملها مع الحرية، ويكرس بعض مظاهر التخلف القائمة في المجتمع ويجاملها، أو يتغاضى عنها في أحسن الأحوال، لضمان تعاطف أكبر عدد من الناس معه، ويتحفظ من الحرية ولا يعتبرها هي الأصل.

وبهذا المعنى، فإن الحركات الإسلامية، عموماً، هي يمين متطرف، استناداً إلى المعايير العالمية المعروفة لتصنيف اليمين المتطرف. ومحاولة هذه الحركات الإيحاء بأنها تمثل تياراً مختلفاً عن اليمين وعن اليسار، بواسطة استعمال لقب الإسلامية لوصف نفسها، هو مجرد غطاء لإخفاء خلفيتها اليمينية المتطرفة. ولهذا يتعذر التحالف معها لبناء الديمقراطية إذا لم تتخل عن جوهر هذه الخلفية وتركب سبيل الاعتدال والانفتاح والتسامح وقبول الاحتكام إلى دولة القانون والاعتراف بمشروعية وجود الأطراف الأخرى بغض الطرف عن معتقداتها.

وحزب رئيس الحكومة يزعم أنه يخوض معركة شرسة ضد التحكم، بينما هو في حقيقة الأمر متواطئ معه حتى النخاع ومدعم لوجوده وتغوله. ذلك أنه يخوض الحرب، فعلاً، ضد حزب الأصالة والمعاصرة، ويعتبرها حرباً ضد “التحكم”، بينما هناك فرق شاسع بين ما يُعتبر تحكماً، من جهة، وبين ما يُعتبر مجرد أدوات للتحكم، من جهة ثانية، ومن المعروف، في مغربنا، أن أدوات “التحكم” تتغير، بينما “التحكم” باقٍ.

وحزب الأصالة والمعاصرة يقدم نفسه كداعية للحداثة وكمؤتمن على رسالة جمع الحداثيين وقوى التنوير والعقلانية، في صف واحد، لمحاربة الأصولية التي تمثل، بالطبع، خطراً على المشروع الديمقراطي وتهدد مكتسبات الحرية، على محدوديتها، في مجتمعاتنا، وتنذر بعودتنا إلى الوراء، وانغلاقنا على أنفسنا، ومعاداتنا للعالم ولروح العصر.

لكن الحداثة، لدى هذا الحزب، مجرد شعار تاكتيكي لمحاربة الإسلاميين وتقليص نفوذهم في المؤسسات، وللتهرب من المنافسة الشريفة في الميدان.

أين هي الحداثة لدى “مجتمع الأعيان” الذي يمثل القاعدة العريضة والمشكلة من مُنْتَخَبِين تَمَّ جلبهم من الأحزاب الإدارية القديمة. وما هي الحداثة التي كان هؤلاء الأعيان ينشرونها بين الناس ويُخْضِعُون لها حملاتهم الانتخابية ووسائلهم الدعائية وخطاباتهم السياسية ورسائلهم وتجمعاتهم وعلاقاتهم بالناخبين وبالقانون وبالأحزاب الأخرى؟

أين هي الحداثة في تحالفات هذا الحزب، وفي تصوراته لإشكالية السلطة والحكم، في المغرب، ومقترحاته للمستقبل؟

إنه يطرح بعض أوجه الحداثة التي تزعج الإسلاميين ويتجاهل أوجه الحداثة التي تزعج الحاكمين؟

هل يمكن الفصل بين مقتضيات الحداثة السياسية ومقتضيات الحداثة الاقتصادية والاجتماعية؟

وإذا كانت الملكية البرلمانية تمثل الوجه السياسي للحداثة في نظام ملكي وراثي، والوعاء الوحيد لاحتضان وإعمال قواعد الديمقراطية في ظل هذا النظام، فإننا نفهم، طبعاً، لماذا لم يبادر هذا الحزب في مذكرته الدستورية ل 2011، إلى اقتراح أحكام مطابقة لجوهر الملكية البرلمانية لضمان ربط القرار بصناديق الاقتراع وربط ممارسة الحكم بمبدأ المحاسبة، والاحتفاظ للملك، فقط، بدور شرفي ورمزي. إن حديث هذا الحزب عن الحداثة لا يحجب عنا الحقيقة الناصعة المتجلية في كونه ليس صانع نفسه بنفسه، بل هو ثمرة صناعة الغير، وهو مجرد ذراع مخزني.

وهل الحداثة السياسية تسمح بالسعي للانتصار على الخصوم باستعمال كافة الوسائل، ولو باستحسان وتسويغ السلطوية، وهضم حقوق الأفراد والجماعات، وخرق المنظومة الأخلاقية للعمل السياسي على أكثر من صعيد؟

هناك حقيقة يحاول كل من الحزبين (العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة) إخفاءها، وهي أن ما يجمعهما أكبر مما يفرقهما، من حيث التصور، وأنهما يشتركان في ما هو جوهري وأساسي ويختلفان في المواقع الظرفية ومواقف الآخرين منهما.

كلاهما يعتبر أن إقامة الملكية البرلمانية ليست ضرورية في المغرب، وبالتالي لا يعتبران بأن أهم إصلاح تنتظره البلاد، منذ أكثر من ستة عقود، هو انتقالها الديمقراطي. حزب يخدم النظام، والنظام يحسن استقبال تلك الخدمة ويريد إدامتها، وحزب يريد خدمة النظام، والنظام لا يتحمس لتلك الخدمة رغم لجوئه المضطر إليها، ولا يفسح لهذا الحزب مكانة تسمح له بممارسة هذه الخدمة كما يريدها.

ومن الناحية التنظيمية، لا يمكن تجاهل الفوارق، ومع ذلك فنحن أمام حزب له روابط قوية بينه وبين جهاز الدولة، وحزب يطمح إلى التوفر على تلك الروابط. لقد أدت المشاركة الحكومية للإسلاميين إلى حدوث المزيد من التقارب حتى على هذا المستوى التنظيمي، وذلك بفعل فتح المزيد من “القنوات”، وخاصة بعد الانتصار الداخلي الباهر، حزبياً، للمقاربة، التي تعتبر أن حزب العدالة والتنمية هو الأقرب إيديولوجيًا وسياسيًا إلى النظام، وأن هذا الأخير سينتهي إلى الاقتناع بذلك، وأن مهمة الحزب الآن هي تقديم الأدلة على ذلك. ويجب الاعتراف أن المقاربة المذكورة نجحت في تهميش عدد من النصوص المكتوبة، التي كانت بعض المقاطع منها تستعير مفاهيم من القاموس الديمقراطي، وتوحي بحصول بعض التقدم، لكن مقاطع أخرى، وخطًا سياسيًا تقوده بقوة وبحزم شديد الرئاسة الإسلامية للحكومة، يثبتان العكس.

الحزبان معاً :

  • يعقدان تحالفات في تسيير العديد من الجماعات بكل سهولة ويسر ويحققان تعاوناً شبه مثالي لا تعتريه مشاكل ذات شأن.
  • صوتا معاً على دستور غير مستوف لمقومات الدستور الديمقراطي، واعتبراه إنجازًا عظيماً ونقلة سياسية نوعية.
  • لم يقدما، في مذكرتيهما الدستوريتين، ما يثبت التزامهما ببناء ديمقراطية حقيقية.
  • يقدمان برامج اقتصادية واجتماعية متقاربة.
  • يؤكدان التزاماً مستمراً من طرفهما بمباركة وتثمين “برنامج الدولة القار” بدون إيراد تحفظات جدية، ويعتبران، بذلك، أنه ليس هناك مشروع بديل.

المقاربة، التي اعتمدها الحكوميون الإسلاميون، تبين عدم وجود خلاف أساسي مع غريمهم السياسي، وأنهم يريدون حيازة مكانة “القرب” التي يحظى بها.

الحزبان معا، خدما “التحكم”، من مواقع مختلفة، ولم ينازعا في جوهره، ولم يقدما صنيعًا ملموساً لتخليص بلادنا من منظومة “التحكم”، رغم رفع الإسلاميين شعار معارضته.

إن الرفض الحقيقي لـ”التحكم”، هو رفض استمرار الحكم في بلادنا خاضعًا لمجموعة من القواعد المعروفة والقائمة على وجود مركز حقيقي أوحد للقرار، وعدم خضوعه لأي نوع من المحاسبة والمراقبة الفعليتين، وتحديد الخيارات الكبرى في دائرة مغلقة بدون نقاش أو تقييم عمومي مسبق في الساحة الوطنية، وتَدَخُّلُ مصالح المقررين في نوعية وطبيعة البرامج المعدة، والتعبئة المستمرة لترسانة من الوسائل الإعلامية والحزبية والإدارية لإضفاء طابع الحصانة على ما يتقرر من برامج، وإقناع الناس بجودتها وتسخير المؤسسات لتزكيتها وترسيمها، واختراق الحياة الحزبية لتأمين ولاء أفرادها الدائم ولإزاحة العوامل التي يمكن أن تحمي استقلال تنظيماتهم وأن تُبْقِيَ فيها على قدر من الحياة وقدرة على الاعتراض والنقد.

لقد حاولت رئاسة الحكومة إقامة نوع من الزواج السعيد بينها وبين منظومة “التحكم”، ولم تُبِْد قدراً ملموساً من المقاومة والممانعة إلا حين بدأ يظهر اتجاه رسمي إلى استخدام كل ما هو ممكن من المناورات الانتخابية الرامية إلى إقصاء بنكيران من موقع الرئاسة الحكومية. أما قبل ذلك التاريخ، فإن أقصى ما كان يصدر عن الرجل هو التظاهر أمام الناس بعدم مسؤوليته عن بعض القرارات المتخذة خارج إرادته. وهو بذلك يوجه خطاباً مزدوجاً : خطاب إلى النظام مفاده أن أسوأ القرارات التي أُطلع عليها رضي بالدفاع عنها، ولذلك فلا حاجة إلى تمرير قرارات دون علمه، فعلمه مفيد للنظام وليس ضاراً به، وخطاب إلى الشعب مفاده عدم جواز تحميله أية مسؤولية عن القرارات المتخذة خارج إرادته. ومع ذلك فمسؤوليته الأخلاقية والسياسة قائمة، ما دام قَبِلَ المشاركة الحكومية في ظل قواعد يعلم علم اليقين أنها تسمح باتخاذ القرارات خارج إرادة الحكومة أو رئيسها.

قام بنكيران بنوع من “التمرد”، حين انتهى إلى علمه بأن هناك جهوذاً حثيثة، مدعومة من أجهزة الدولة، تُبذل لكي يتبوأ حزب الأصالة والمعاصرة الرتبة الأولى في الانتخابات، وتولى تصعيد لهجة الخطاب، بشكل مفاجئ، وقال إن الرضى الوحيد الذي يسعى إلى تحصيله هو رضى والدته، وإن مرجعيته تظل هي ابن تيمية، وتحدث عن وجود “دولتين” في المغرب، مجدداً بذلك الإشارة إلى ما سبق أن عبر عنه اليوسفي في محاضرة بروكسيل بخصوص وجود نوع من الازدواجية بين “سلطة الدولة” و”سلطة الحكومة”.

غاية ما كان يريد بنكيران الوصول إليه، هو إزاحة حزب الأصالة والمعاصرة ورئيسه، من الموقع الامتيازي للقرب الذي يحظى به، وتعويضه بحزب العدالة والتنمية ورئيسه. حاول بنكيران أن يقنع النظام بوجاهة هذا التعويض وبفوائده الجمة بالنسبة إلى النظام، فهذا الأخير سيربح على واجهتين، فيعفي نفسه من التورط في أية مناورات انتخابية لأن رصيد حزب ع.ت لا يحتاج إلى تدخلات تدليسية، ويستفيد من استعداد هذا الحزب المسبق لدعم خيارات النظام وثوابته وتزكية برامجه وقراراته وتبني أشد الإجراءات إضراراً بالجماهير الشعبية.

لكن ما وقع، خلال المحاولة الفاشلة لتشكيل حكومة بنكيران الثانية، وإقدام الملك على إعفاء الرجل، يفيدان، بما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام رفض الصفقة المقترحة عليه، وذلك، لعاملين :

  • لأنه لا يريد إتاحة الفرصة لحزب العدالة والتنمية للاستمرار في توسيع قاعدته الانتخابية، ولعب دور منافس للنظام في امتلاك المشروعية الدينية رغم أن الحزب خدم مصالح النظام أكثر من الآخرين، وعدم الاطمئنان إلى وجود مؤشرات عن قرب الأفول الانتخابي للحزب.
  • عدم الثقة في شخص بنكيران نظراً لسيل التناقضات الواردة في خطابه، ونظراً لقدرته المذهلة على ممارسة لعبة البحث عن الشعبية بأي ثمن، ونظراً لبراغماتيته المطلقة التي تجعل المرء لا يعرف ما هي في الأصل نواياه الحقيقية !

إن انتماءنا، كحزب اشتراكي موحد، إلى الخط الثالث، كما يظهر ذلك من خلال عناصر البرنامج الخاص بالانتقال الديمقراطي والمعروض في هذه الأرضية، يعني أننا مع الحداثة في مختلف تجلياتها، سواء تعلق الأمر بالمجال السياسي أو المؤسسي أو بالمجالات الأخرى، ولا نعتبر أن معركتنا من أجل التحديث والتنوير، تضعنا  في مواجهة خصم واحد، هو الأصولية الإسلاموية، بمختلف تياراتها، سواء المتواجدة داخل المؤسسات (حزب العدالة والتنمية) أو المتواجدة خارج المؤسسات (جماعة العدل والإحسان) بل تجعلنا، أيضاً، في مواجهة الأصولية المخزنية، حتى وإن تَدَثَّرتْ بثوب الحداثة القشيب في محاولة للتغطية على نزوعها السياسي الماضوي وما قبل الحداثي ونعتبر أنفسنا مُحَصَّنِينَ ضد النزعتين الانتحاريتين القاتلتين اللتين تقوم إحداهما على التحالف مع الإسلاميين ضد المخزن، وتقوم الأخرى على التحالف مع المخزن ضد الإسلاميين.

لكن تبنينا لمؤسسات الحداثة وللقواعد الديمقراطية المعروفة، كونياً، لا يعني الاستسلام لمنطق السوق ومنحه حق “تأطير” هذه الديمقراطية ورسم مداها وتحديد دائرة المستفيدين منها وتكريس ظاهرة “المقصيين من الديمقراطية”.

إن نضالنا من أجل إقامة الديمقراطية لا ينفصل عن نضالنا من أجل إقامة أسس صلبة ودائمة للعدالة الاجتماعية. إننا لا نقبل الاستمرار في وضع منقسم إلى مغربين : مغرب الذين يملكون كل شيء، ومغرب الذين لا يملكون أي شيء، ونرفض الإدعاء بأن لا بديل عن الليبرالية المتوحشة وقوانينها الظالمة، وللسياسات الداخلية التي تجعلنا، في النهاية، رهائن سياسات خارجية وتؤدي بنا إلى التبعية لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، ولضغوط لوبيات الداخل التي تقتات من الفساد والريع، ونرفض تزكية الخطابات التمويهية التي تزعم محاربة الفساد ولكن بالإبقاء على  الآليات والشروط المنتجة للفساد.

تَمَكَّنَ حزب العدالة والتنمية من الفوز في انتخابات 2016 واحتلال الصف الأول، بينما كانت حصيلته الحكومية ترشحه، موضوعياً، للخسارة. لقد تَمَكَّنَ من استدرار عطف قطاع مهم من الناخبين الذين وجد خطاب المظلومية صدى لديهم ودفعهم إلى تصويت عقابي ضد رموز “التحكم”، معتبرين أنهم بذلك يباشرون نوعًا من التمرد ويعلنون إدانتهم للأوضاع العامة القائمة في البلاد. لقد تسامحوا مع حزب العدالة والتنمية ولم يعتبروه مسؤولاً عن تزكية واستمرار تلك الأوضاع، ولم يتعاملوا معه باعتباره جزءًا منها، بل قَدَّرُوا أنه يوجد في الصف المناهض لها.

عَيَّنَ الملك عبد الإله بنكيران رئيساً للحكومة، وشرع الرئيس المعين في استقبال قيادات الأحزاب، في جو من الدعة والانشراح والثقة في أن “العرض” متوفر، وأنه هو من سيختار الأحزاب  التي يريد العمل معها واستبعاد تلك لا يرغب في العمل معها، وأن الأحزاب تتحمس للمشاركة باستثناء حزب واحد.

قام التجمع الوطني للأحرار، كحزب إداري، بتنفيذ تكليف الاعتراض الرسمي على مشاركة حزب الاستقلال، بسبب وجود مشكلة للدوائر العليا مع رئيسه، لكن بنكيران، الذي كان يبدو متشبثاً بمشاركة حزب الاستقلال، تخلى عنه بعد ذلك. واعتبر أن هناك مؤامرة تريد إفشال مشروع تشكيل الحكومة.

ثم ظهرت بعد ذلك عقبة أخرى متمثلة في قيام حزب الأحرار بتنفيذ مهمة التمسك بمشاركة الاتحاد الاشتراكي. ورفض الرئيس المعين التراجع مُبْدِياً، ظاهرياً، نوعاً من التصلب والثبات في الموقف، رغم استمرار الضغوط لعدة شهور.

ولكن الحقيقة، في نظرنا، أن عدم تنازل الرجل راجع إلى وجود قناعة راسخة لديه بإمكان إيجاد مخرج، وذلك لعامل بسيط، هو أن رئيس الحكومة المعين معروف بتبنيه الحماسي لخط يرفض المعارضة بالإطلاق، ولم يتصور، للحظة واحدة أنه سَيَتِمُّ خرق الدستور وسيُعفى من منصبه، ولهذا اعتبر نفسه  في موقف قوة.

لكن الذي جرى في ما بعد، كان مفاجئاً له، إذ صدر بلاغ للديوان الملكي يخبر الرأي العام بأن الملك، قرر، من بين اختيارات أخرى، تعيين شخصية أخرى من الحزب ذاته، بسبب تعذر الوصول إلى تشكيل الحكومة بعد مرور ستة أشهر.

قررت أجهزة الحزب “التعامل بإيجابية مع قرار الملك” والتصريح، أيضاً، بأن بنكيران لم يكن هو السبب في فشل الاتفاق على تشكيل الحكومة. وقَبِلَ سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الجديد، إدماج حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، وأُسدل الستار على أطول مسلسل لتشكيل الحكومة في المغرب.

لم يكن مستبعداً أن يتنازل بنكيران، في نهاية المطاف، بعد استقبال ملكي كان يَلُوح له في الأفق، ولكنه، مع ذلك، كان يعتبر أنه لا بد من خوض فصل جديد من حربه الإعلامية بخطاب المظلومية وشعار مناهضة “التحكم”.

بعد تعيين العثماني، دخل حزب العدالة والتنمية مرحلة الزوابع الداخلية، فتبُودلت الاتهامات بين قادته وأعضائه، وظهر تطاحن بين تيار (الاستوزار) وتيار (الولاية الثالثة)، وتراجعت نتائج الحزب، في الانتخابات الجزئية، وتخلف بنكيران عن حضور بعض اجتماعات قادة الأغلبية، ووجد الحزب نفسه في موقف شاذ، وفي منزلة بين المنزلتين، فهو يرأس الحكومة، رسمياً، وهياكله قررت التعامل بإيجابية مع بلاغ الديوان الملكي، الذي أعفى، ضمنياً، بنكيران والقبول بالعثماني رئيساً للحكومة والمشاركة فيها، وهو في ذات الوقت يبدي، خاصة على مستوى رئاسة الحزب وبعض قادته، درجة من التحفظ على “الطريقة” التي تَمَّتْ بها هذه المشاركة، ويتجلى ذلك، مثلاً، في مقاطعة بنكيران لاجتماعات قادة الأغلبية وتجنب إعلان الدعم الصريح للحكومة، دون أن يبين ما هي “الطريقة الأخرى” المتاحة !

إن بنكيران وأنصاره، اليوم، يريدون الجمع بين وضع المشاركة في الحكومة ووضع المعارضة، وبمعنى آخر يريدون انتهاج خطة اللعب على الحبلين، وهذه ليست خطة جديدة بل إنها الرياضة المفضلة التي أتقنها رئيس الحكومة السابق وحاول، من خلالها، دائما، زرع الخلط والتمويه والتحلل من المسؤولية.

المعارضة تُمارس في موقع المعارضة وليس باقتعاد كرسي رئاسة الحكومة.

خلال مرحلة التفاوض من أجل تشكيل الحكومة، لُوحظ أن بنكيران، عموماً، يقبل لعبة معينة ثم يتظاهر برفض نتائجها، ويحاول أن يظهر كما لو أنه فُوجئ بهذه النتائج.

يتعامل مع أحزاب، يعلم بأنها ليست مستقلة، ويطلب منها، أمام الناس، أن تمنحه مالا تملكه وما ليس بحوزتها.

ولم يكن ذلك هو المنزلق الوحيد الذي سقط فيه الرجل وسَهَّلَ به خطة التخلص منه:

لقد تصور، بعد إعلان النتائج المتعلقة بانتخابات 2016، أن حزبه حسم الصراع لصالحه، وأن ميزان القوى قد تغير لفائدته، بينما الرصيد الانتخابي ليس كافياً، وحده، لمنح صاحبه قوة “الحسم” النضالي في الميدان.

ومارس الخلط بين الأغلبية النسبية، التي حصل عليها الحزب مقارنة بنتائج الأحزاب الأخرى، والأغلبية المطلقة التي ظلت بين يدي مجموع الأحزاب التي تُكِنُّ له عداء مستحكما حتى وإن رضيت بالتعامل معه بناءً على تلقيها إشارة تجيز هذا التعامل أو تأمر به.

وعمد إلى إعلان توقيف المفاوضة (بلاغ انتهى الكلام) بدون أن يوقفها فعليًا، ودون أن يقدم استقالته، وسمح لنفسه بالحياد عن أصول الاحترام الواجب للرأي العام.

استعداد بنكيران للتنازل مُتَأَتٍّ من إصراره على البقاء في رئاسة الحكومة واستبعاده، كلياً، لفرضية العودة إلى المعارضة، ولهذا فإن ما يسمى بتيار الاستوزار هو في الأصل تشخيص أجلى لخطة بنكيران الأصلية والثابتة.

ولهذا فإن الصراع، داخل حزب العدالة والتنمية، لم يتعدى، بعد، سقف الاعتبارات الشخصية.

كان النظام يفضل فوز حزب الأصالة والمعاصرة بالرتبة الأولى (الخطة أ)، ولكنه كان مستعداً لتدبير حالة حصول حزب العدالة والتنمية على الرتبة الأولى وإسناد رئاسة الحكومة إلى بنكيران نفسه (الخطة ب)، لأنه مازال في حاجة إلى حزب ع.ت لاستخدامه كواقية أمامية في عملية إغلاق قوس الترتيبات التي تَمَّ اللجوء إليها بعد نزول شباب حركة 20 فبراير إلى الشارع. ولكن وجود شخص بنكيران في رئاسة الحكومة، هذه المرة، يجب أن يقترن بحرمانه من النظام الامتيازي الذي استفاد منه في الماضي، كرئيس حكومة مشاغب ولا نمطي يمنح نفسه حق قول أي شيء.

وإذا تَيَسَّرَ أمر تعيين شخصية أخرى من الحزب، في منصب رئيس الحكومة، فسيكون ذلك أفضل، وهي الحلقة التي ساعد في حصولها بنكيران بأخطائه وسوء تقديره للوضع السياسي، كما ساعد فيها المقربون من بنكيران بتواطئهم وانقلابهم عليه. وهي الحلقة التي ستتم في ما بعد خلال المؤتمر الأخير لحزب العدالة والتنمية بالتصفية النهائية لبنكيران وتقوية “تيار الاستوزار” وبالتالي انتهاء مرحلة من عمر الحزب ودخوله مرحلة جديدة، تمامًا، سينطبع بها، وقد تؤدي به إلى مصير سابقيه في موقع الوزارة الأولى (رئاسة الحكومة اليوم).

والخلاصة أن النظام ظل وفيًا لمنهجه في توظيف واستعمال أطراف سياسية معينة، خلال مدة من الزمن، ثم البحث، بعد ذلك، عن صيغ الإقصاء والإبعاد، منذ حكومة عبد الله إبراهيم وحكومة اليوسفي وحكومة بنكيران، مع اختلاف المواقع والمواقف والمقومات الاعتبارية للرموز وملابسات الأحداث. إن الأمر، في عمقه، يكشف رفضًا تاريخيًا ومستدامًا لاقتسام السلطة الفعلية أو الإسمية.

بعد مقتل بائع السمك محسن فكري في الحسيمة، يوم 28 أكتوبر 2016، انطلقت سلسلة من المظاهرات السلمية، بشكل عفوي في البداية، ثم تحَوَّلَتْ إلى مسيرات دورية منظمة، وعَرَضَ النشطاء الذين يتولون تأطير التظاهر، دفتر مطالب متكامل يتضمن مجموعة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.

وشيئاً فشيئا تَحَوَّلَ التظاهر إلى انتفاضة سلمية عارمة يشارك فيها عشرات الآلاف من مواطني الريف.

وعمل النظام، في البداية، على حشد أحزاب الأغلبية ضد الحراك ودفعها إلى اتهامه بالخلفية الانفصالية والعمالة للخارج، ثم تراجعت بعض الأحزاب عن اتهاماتها وتأكد بذلك حجم الارتباك الذي أصاب النظام وأتباعه.

ولم تستطع الزيارات الرسمية إلى الريف، وجلسات العمل الحكومية، إخماد الحراك، ورفض النشطاء أي تفاوض مع ممثلي السلطات الحكومية والمؤسسات المنتخبة، وطالبوا بالتفاوض مع ممثل للملك، وذلك في سياق المطالبة بضمانات جديدة، إذ سبق أن قُدِّمَتْ وعود في الماضي، وَتَمَّتْ زيارات إلى المنطقة، لكن مطالب الساكنة ظلت معلقة وتفاقمت الأوضاع وتعثرت المشاريع التي دُشنت أو أُقبرت بكل بساطة.

عمد النظام، بعد حادث المسجد، إلى شن حملة اعتقالات واسعة. اعتقل قادة الصف الأول فلم يتوقف الحراك. اعتقل قادة الصف الثاني فلم يتوقف الحراك. اعتقل عددًا كبيراً من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي فلم يتوقف الحراك. اعتقل الصحفيين والمصورين والمدونين وموثقي أحداث الحراك فلم يتوقف الحراك وانتقل من المسيرات، والإضرابات، والطنطنة في السطوح، وتشغيل منبهات السيارات، ومقاطعة خطبة الجمعة، والتخلي عن الطقوس الاحتفالية لعيد ديني، إلى إضراب المعتقلين عن الطعام.

وبعد التسويق، في ظل حكم الملك محمد السادس، لفكرة مؤداها أن مرحلة سنوات الرصاص قد انتهت، عادت الآلة القمعية للاشتغال بأقصى سرعتها وتَمَّ الزج، في بضعة أسابيع فقط، بمئات من شباب منطقة واحدة في السجن، ومتابعتهم بتهم خطيرة تصل العقوبة فيها إلى الإعدام، وتعذيبهم، وتجريدهم من الثياب وتصويرهم بشكل مهين، ومداهمة بيوتهم وكسر أبوابها، والتعامل معهم كما لو كانوا إرهابيين، والتنكيل بالمتضامنين، لمجرد أنهم قاموا بمسيرات سلمية ذات مطالب اجتماعية وحقوقية؟

ولجأ النظام إلى التضييق على المحامين وتهديدهم وفتح متابعات في حق بعضهم، وهو الأمر الذي لم يجرؤ على اللجوء إليه، بهذه الدرجة، حتى في أحلك ظروف القمع ومع محامين كانوا يؤازرون أشخاصًا لم يكونوا متابعين بالتخطيط لانقلابات عسكرية وتمردات مسلحة، بل بتنفيذها فعلا! ووصل الأمر، في الإعلام العمومي، إلى درجة بث مشاهد عنف لا علاقة لها بحراك الريف، على أساس أنها تثبت عدم سلمية الحراك، بينما المشاهد الحقيقية للحراك منتشرة في كل مكان ويطلع عليها القاصي والداني ويقف العالم كله على طابعها السلمي؟

ماذا جرى حتى ركب النظام رأسه بهذه الطريقة الغريبة، واضطر إلى الكشف عن كون البنية التي أنتجت سنوات الرصاص، في ثوابتها وجوهرها، لازالت قائمة، وأصبحت تجاوزاته حديث الخاص والعام؟ كيف قَبِلَ أن يَتجمع ضده كل هذا الكم من التنديدات والاستنكارات؟ ألم يفكر في التأثير المحتمل لذلك على صورة اجتهد في الترويج لها وتسويقها عن نفسه وعلى مجريات ملف قضية وحدتنا الترابية؟ ولماذا عاد إلى بعض الممارسات التي اعتبر عدد غير قليل من الناس بأنها أضحت جزءًا من ماض غير مأسوف عليه؟ لماذا انزلق بسهولة نحو هدم كل ما حاول أن يشيده على طريق المصالحة مع الريف، ونكأ جراح الماضي، وأيقظ في النفوس الإحساس بأن المخزن يحتقر أبناء المنطقة ويعاملهم بقسوة وعنف؟ لماذا جعل المتتبعين الموضوعيين ينتهون إلى أن الشكل الذي واجه به النظام حراك الريف، يجعل كل حديث عن “المفهوم الجديد للسلطة” و”إصلاح منظومة القضاء” من قبيل العبث؟

هناك ثلاثة عوامل، على الأقل، تفسر، إلى حد كبير، هذا الغلو القمعي الذي تَصَرَّفَ به النظام :

  • الشعور بأن السلطوية ربِحت، عالميًا، مساحات جديدة للتحرك، وفرصا جديدة للتغول، وموارد جديدة للانتعاش، بعد انتكاسة “الربيع العربي”، وصعود اليمين المتطرف، هنا وهناك، ودخول عدد من المجتمعات الغربية في أزمات جعلت قادتها الجدد يبدون غارقين في البحث عن مخارج للوضع الداخلي المثقل بالمشاكل وغير مستعدين لإيلاء كبير اهتمام لقضية تطور الديمقراطية ومسألة الحريات في بلدان العالم الثالث.

السلطوية، عندنا، تعتبر أن الوضع الدولي في صالحها، حالياً، وتريد أن تستغل ذلك لكسب أكثر ما يمكن من المكاسب، ولكنها تتجاهل، ربما، النمو المطرد للهيئات المدنية والحركات الحقوقية، عبر العالم، وما يتفرع عن ذلك من آثار عميقة.

  • الخوف من اتساع دائرة الحراك وتحوله من حراك ريفي محلي إلى حراك وطني موحد ينازع في نمط تنظيم السلطة ونمط توزيع الثروة، ويطالب بتغيير جذري، ويربط بين ما هو اجتماعي وما هو سيـاسي. منـذ خفـوت حركة 20 فبراير، أصبح النظام المغربي يعاني من “عقدة 20 فبراير”، ويعتبر أن مهمته الرئيسية، في الظرف الراهن، هي استعمال كل التقنيات الأمنية التي تضمن عدم عودة حركة 20 فبراير أو حركة مماثلة إلى الشارع، مهما كانت انعكاسات ذلك على وضع الحريات وعلى مآل التزامات المغرب ذات الطابع الحقوقي، ودون بلورة أية إرادة جدية لاجتثات الأسباب والعوامل الموضوعية، التي أدت إلى ظهور حركة 20 فبراير، والمتمثلة في مظاهر الاستبداد والفساد.
  • تقديس الأمني، أي الانطلاق من أن المغرب يتوفر، اليوم، على آلة أمنية نجحت في ضمان معالجة حاسمة لقضايا الإرهاب، وغدت موضع إشادة دولية، وعليها أن تتحول اليوم إلى وسيلة لمعالجة المزيد من الملفات، وأن العالم الذي يتلقى، بسخاء، الخدمات الاستخباراتية المغربية ويستفيد منها، أيما استفادة، لا يمكن له في ذات الوقت أن ينازع في سلوك مصدر تلك الخدمات.

هناك اليوم تصور سائد، على مستوى جزء من مركز القرار، مؤداه أن الشدة والعنف تستطيعان حل أية مشكلة ذات علاقة بالأمن، وأن الاحتجاجات، كيفما كان نوعها وحجمها وحيثياتها، لا تستطيع الصمود أمام الآلة القمعية، لأن من يتوفر على عُدَّةٍ مادية في المواجهة يكسب معركته دائماً ضد من لا يملك تلك العدة، وكلما زاد حجم الترسانة الأمنية، يزيد الاقتناع بأنها قادرة على حسم الأمور لصالحها وكلما ازداد حجم النجاحات المحققة على مستوى مواجهة الظاهرة الإرهابية يزيد الاقتناع بإمكان تحقيق ذات النجاحات باستعمال الأساليب والطرق نفسها والمنطق نفسه. لقد تم التعامل مع ملف الريف كملف من ملفات الإرهاب، لكن، ظهر من الناحية العملية، أن المقاربة القمعية زادت في تعقيد المشكل عوض حله.

وهناك من يعتبر بأن وصول التهديدات، التي تطال أمن البلاد، مستوى معيناً، يصبح معه كل حديث عن المساطر والضمانات والقيود الشرعية للتدخلات الأمنية مضيعة للوقت، وأن مسايرة المنطق الحقوقي يؤدي، في أحيان كثيرة، إلى الكوارث، وأن سقوط الأنظمة ونجاح الثورات، إذا ما حصل، فإنه ربما يُعزى، فقط، إلى أخطاء أمنية على المستوى التقني. إذا كان الأمر كذلك، فإن السوابق التاريخية تؤكد لنا، بشكل جلي، أن بناء أكبر الترسانات الأمنية والاستخباراتية، وتزويدها بكل الوسائل والغطاءات والحصانات والاستقلالية، وإعطاءها الحق في ممارسة الضغوط السرية على السياسيين ورجال الأعمال والمُنْتَخَبِين والمثقفين والصحفيين، لم يحمها من خطر الوقوع في تلك “الأخطاء التقنية” وكان ما كان!

إن تقديس الأمني فيه خطر على الديمقراطية. كل بلاد هي في حاجة، طبعًا، إلى أمنييها، ولكن ليسوا هم من يضع سياساتهم الأمنية، بل هم يخضعون للسياسات التي يقررهما المُنْتَخَبُون ويحاسبون عليها. وفي كل بلدان العالم، إذا لم تكن هناك حكامة أمنية، فإن الأمنيين سيتجهون نحو المطالبة بمزيد من السلطات والصلاحيات والوسائل والحصانات والامتيازات، فيتحولون، تدريجيًا، إلى الدفاع عن مصالح مؤسستهم واستقلاليتها، على حساب المؤسسات الأخرى، فيختل التوازن، وتشرع البلاد على خطر تحكم الأمينين وإحكام قبضتهم على الدولة وأخذها كرهينة واصطناع الأوضاع التي تسمح لنفوذهم بالتزايد وتدخلاتهم بالاتساع.

إننا نخشى، اليوم في المغرب، أن يتحول الأمني إلى رابع المقدسات ولكن ذلك سَيَتِّمُّ طبعاً، في خدمة النظام وتحت إمرته.

كان هناك، تصور أمني، ربما، بأن إخماد حراك الريف هي قضية أسبوع أو أسبوعين، وأن الحياة، بعد ذلك، ستعود إلى سابق عهدها، وأن الموضوع سيَلُفُّهُ النسيان، لكن، ظهر أن الخطة فشلت وأن الرأي العام ظل منشغلاً بالقضية كما في السابق. ولهذا تَمَّ اللجوء إلى تصعيد العنف وتوسيع دائرة الاعتقالات، كشكل من أشكال الهروب إلى الأمام. ودخلنا دوامة خطيرة، فكلما فشل القمع في تحقيق أهدافه زاد منسوب القمع، وزاد انشغال الناس بمجريات الحراك وزاد منسوب الاحتقان، محلياً ووطنياً.

حكومة العثماني لا يمكن لها اليوم أن تتهرب من مسؤوليتها عما يجري في الريف، وعن عودة “سنوات الرصاص”.

إن تصريح رئيس الحكومة بأنه لا يتحدث في موضوع معروض على القضاء يفضح كل شيء، إذ كيف عُرِضَ الموضوع، أصلاً، على القضاء؟  ألم يكن ذلك “العرض” جزءاً من حملة قمعية هوجاء طالت نشطاء حراك سلمي. هناك قمع لنشطاء مسالمين، جرى في ما بعد، إعطاؤه تغليفة قضائية. ومنذ البداية ظهر أن شروط المحاكمة العادلة تَمَّ المس بها، فعندما يرجح المجلس الوطني لحقوق الإنسان فرضية التعذيب، بعد فحص المعتقلين، فمعنى ذلك، مثلاً، أن المسلسل القضائي المتحدث عنه فقد كل مصداقية.

وبمناسبة حراك الريف، برزت ظاهرة استغلال أراضي بلدان أجنبية كساحة للاحتجاج ضد ممارسات السلطة المغربية، وهو نوع من “التدويل” الذي يعيد تصنيف المغرب الرسمي ضمن البلدان التي لها مشاكل جدية مع قضية الحريات.

ولُوحظ، من جهة أخرى، أن قادة حراك الريف، رفضوا التعامل مع الأحزاب السياسية واعتبروها مجرد دكاكين. ورغم أننا نعتبر أنفسنا جزءاً من المجموعة الصغيرة من الأحزاب غير المعنية بهذا الوصف، فإننا لم نشترط على أولئك القادة استثناء الحزب أو الفيدرالية من هذا الحكم، لكي نساند الحراك ونبلور حياله أشكال نضالية ملموسة.

لقد قمنا بواجبنا، ولم نقصد بذلك تصفية حساب سياسي مع حكومة أو نظام، بل انطلقنا في ذلك من تشبثنا المبدئي بالحق في الاحتجاج السلمي، ومن تقديرنا أن مطالب المحتجين مشروعة. ونحن لا نحدد موقفنا من الحراك على ضوء موقفه منا، خاصة أننا نتفهم خيبة الأمل التي أصابت الشباب المغاربة، بسبب سلوكات أغلب النخب الحزبية، وجعلتهم يقاطعون الانتخابات؛ ونحن نعتز بالنضال السلمي لشباب الريف، حتى وإن اختلفنا مع هذا الخطاب، أو ذاك، من خطابات قادة الحراك.

الجميع يعلم أنه، منذ عدة سنوات، قررت فئات من الشباب الذي لا يصوت في الانتخابات، النزول إلى الشارع لإسماع صوتها، ونحن نأمل أن تهتدي إلى السبل التي تمكنها من أن تستثمر، كذلك، حلبة المؤسسات، على علاتها، لتحقيق المزيد من النتائج المرجوة.

يجب أن نعترف بظهور فئة جديدة من القادة الميدانيين للحراكات الجماهيرية، لم يكونوا نتاج صناعة نقابة أو حزب، وبالدور البارز الذي تلعبه النساء على مستوى الصف الأول، وعلى مستوى مختلف درجات ومراتب القيادة والتأطير.

إننا نحيي، عالياً، شباب الحراك لأنهم كسبوا رهان السلمية، وهذا ليس بالهين في مجتمعات يؤدي فيها الظلم و”الحـﯖرة” ومظاهر العسف والاضطهاد إلى ردود فعل عنيفة.

ما يقع، في الريف، يعنينا، جميعاً، ويعني مستقبل الديمقراطية، في بلادنا، ولا يحتمل الصمت أو السكوت أو الحياد. السلطوية تريد العودة، بنا، سنوات إلى الوراء حتى نبدأ المعركة، بيننا وبينها، من نقطة الصفر وتعمد، من جديد، إلى تقسيط عملية مدنا بحقوقنا الطبيعية. واجب الديمقراطيين هو التشبث بالمكتسبات ومواجهة الردة.

احتداد النقاش حول الهوية والقيم

  • يستعر النقاش، في المغرب، حول القيم بين الحداثيين والمحافظين، ويتناول النقاش قضايا الحريات الفردية، والإجهاض، والمساواة في الإرث بين الذكور والإناث، والتجريم القانوني للعلاقات الجنسية الرضائية بين راشدين، وقضايا الهوية واللغة والمهرجانات الفنية، وحرية اللباس، والاختلاط، وعقوبة الإعدام، وتجريم الإفطار العلني في رمضان، وأشكال ممارسة الطقوس الروحية وكيفية تخليد الأعياد والمناسبات الدينية وغير الدينية، ومراسيم حفل الولاء وتقبيل يد الملك، ومضامين البرامج المقدمة في المدرسة والإذاعة والتلفزة، وحق رفع العلم الأمازيغي.

ويظهر، إلى حد الساعة، غياب أسس وضع توافق تاريخي حول الإطار العام لمعالجة مختلف هذه القضايا، وذلك لأسباب متعددة، ومنها إصرار النخب المحافظة على استثمار موقف التصلب، الذي تبديه في الخطاب ولا تأخذ به في الواقع، لربح تعاطف وأصوات الناس، وإصرار النظام على استغلال هذا التناقض بطريقة تتيح له التحالف مع طرف لإضعاف الطرف الآخر؛ ومنها غياب منظومة وطنية للقيم تحظى بالقبول وترقى إلى مستوى المرجعية الوطنية التي يحتكم إليها الجميع. ومنها، أيضاً، غياب أسس متعاقد عليها وملائمة للعصر من آليات الاجتهاد في القضايا التي يفرضها الواقع المعيش وتراعي المرونة التي يتطلبها كل وضع مستجد في الواقع المعيش المرتبط بروح العصر.

- صعوبات في التدبير الديني الرسمي

  • ظهر، مرة أخرى، أن المساجد ليست مجرد أماكن للعبادة، بل هي وسيلة إيديولوجية في يد النظام للتحرر من الواجبات والالتزامات التي يفرضها عليه وجود دستور يسطر الحقوق المسموح بها. وهكذا، يَتِمُّ استغلال المساجد لفرض نوع من التجريم العملي لتلك الحقوق وتحريمها، دينياً.

لكن، النظام، اليوم، يجد صعوبة أكبر في تدبير هذا الوضع المفارق بسبب احتجاجات تظهر، هنا وهناك، وتضغط من أجل الحد من هيمنة النظام على المساجد وإصراره على جعلها في خدمة سياسته (رفض قرارات بإعفاء بعض الأئمة، مثلاً) وبرز، من جهة أخرى، صراع على فضاءات المساجد ومساحات الدين مع جماعات تستثمر الدين وتستغله لأغراض غير أغراضه الأصلية.

كما أن النظام السياسي وجد نفسه مطالباً بمراجعة المقررات الدينية في التعليم العمومي، وباستبعاد وحذف الأفكار التي تساعد في زرع بذور الانغلاق والتطرف ورفض التعايش مع “الآخر”.

أصبح النظام يبحث عن حلفاء دينيين جدد لمحاصرة القوى الدينية غير المنصاعة.

الصحراء والجهوية : تحديات جديدة

  • هناك، على مستوى قضية وحدتنا الترابية، مستجدات مختلفة، يرتبط بعضها بعودة المغرب إلى المنظمة الإفريقية، ومحاولة تصحيح بعض من أخطاء الماضي، في العلاقة مع إفريقيا. وبعضها الآخر مرتبط بتداعيات الصراع مع الأمين العام السابق للأمم المتحدة والصراع مع المبعوث الخاص السابق للأمين العام الأممي في الصحراء، ومحاولات بعض الدول توسيع اختصاصات المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان بالصحراء، وقرار المغرب ترحيل عدد من الموظفين المدنيين الأمميين، وتهديد البوليساريو بالعودة إلى العمل المسلح ضد المغرب، وسباق التسلح بين الجارين، وانزلاقات الدبلوماسية الجزائرية والتي ووُجهت، أحيانا، بردود فعل متشنجة تصب الزيت في النار ولا تراعي مصلحة الشعبين الشقيقين في الحفاظ على روح الإخاء في العلاقة بينهما، وبروز عدد من مظاهر فشل النموذج الجهوي في المغرب، واتساع مجال انتهاكات حقوق الإنسان، ومسلكيات الهروب إلى الأمام والتعالي الديبلوماسي.

ونحن في الحزب الاشتراكي الموحد، نؤكد، دائماً، على ضرورة الربط بين قضيتي الديمقراطية والوحدة الترابية، ونسجل إيجابية مقترح الحكم الذاتي في الصحراء، ونعتبر أن شرط نجاحه هو إدماجه في سيرورة للانتقال الديمقراطي تجعل مغاربة الشمال ومغاربة الجنوب يقررون مصيرهم ويبنون وحدتهم على أسس تنظيم ترابي مركب وديمقراطي يتراوح ما بين الجهوية المتقدمة والحكم الذاتي، ويستجيب لمتطلبات التنمية الشاملة والمستدامة، ولتطلعات الساكنة، وللتنوع الثقافي والجغرافي والاقتصادي في المغرب؛ فلا جهوية ولا حكم ذاتي حقيقيين بدون ديمقراطية حقيقية، وبدون تخل حقيقي عن المقاربة القمعية والريعية، وإلا فإن الكلام عن الجهوية أو عن الحكم الذاتي سيُعتبر من قبيل الاستهلاك ولن يصدقه أحد.

لغة جديدة

  • أدى تكثيف التواصل، بين شباب المغرب، على مستوى الشبكات الاجتماعية، إلى ظهور لغة جديدة في مخاطبة المسؤولين في أعلى مراتب السلطة، وهي لغة قائمة على جرأة غير مسبوقة، حيث يتم تقديم انتقادات حادة، بوجوه مكشوفة وبدون تحفظ أو تردد.

هذا أزعج البعض، بكل تأكيد، فعاد إلى اجترار مقولة هيبة الدولة. وحسب هذا البعض، فعندما تُمَسُّ هيبة الدولة يصبح القمع مشروعاً ويُعتبر “المس” حاصلاً، “أحيانًا”، بمجرد تقديم نقد صريح للأوضاع !

اتساع الهوة بين المشهد المؤسسي وحركية المجتمع

  • المجتمع المغربي يتحرك. المواطنون ينزلون إلى الشارع للدفاع عن حقوقهم وإسماع صوتهم والإعلان عن مطالبهم، ويعتمدون تأطيراً ذاتياً، في الكثير من الأحيان. الاحتجاجات تعم مختلف المناطق والشعب يعي، شيئاً فشيئاً، بأن الصمت والسكون لم يعد لهما أي معنى وأن النضال الملموس ضرورة عملية وحق من الحقوق.

ولم تعد الأحزاب، التي تحتل أكبر حصة من مقاعد المؤسسات المنتخبة، قادرة على لعب أي دور للوساطة أو التأطير، وبالتالي، فإن قوة حركية المجتمع المغربي لم تجد وساطات ذات مصداقية للاطمئنان إليها.

الأحزاب السياسية، التي كانت تُلَقَّبُ بالوطنية الديمقراطية، تعاني، في أغلبها اليوم، من ضمور مصداقيتها وانكماش إشعاعها وتزايد أزماتها الداخلية، ولم يعد بمستطاع الحزب الإسلامي المشارك في المؤسسات أن يقول عن نفسه إنه حزب الأطهار والصالحين، ويزعم خلوه من أية نزعات مصلحية ضمن صفوف قيادته وقاعدته، وأصبح تبادل الاتهامات بين أعضائه عنوانا عريضًا على وجود أزمة حقيقية.

عقدة 20 فبراير

  • يعتبر النظام بأن التنازلات التي قدمهـا، بعد ظهور حركـة 20 فبراير، والانفتاح المحدود الذي انخرط فيه، آنذاك، هو سبب كل المتاعب والكوابيس التي عاشها في ما بعد، فالربيع العربي أخفق في الانتقال، بالبلدان التي شهدته، إلى الديمقراطية، ووجد نظامنا نفسه مُوَرَّطاً في دستور يقيد يده، ولو بصورة طفيفة، في بعض الجوانب المحدودة، وفي خضم محاولة مضنية لتدبير وجود الإسلاميين في الحكومة وهو الذي لا يُكِنُّ لهم أي ود.

ينطلق النظام، الآن، من أن الـوضع في 2011 كـان يسمح له بتعريض حركة 20 فبراير لدرجة أقسى من القمع والتنكيل ومنعها من تحقيق أية نتائج، ولهذا أصبح هاجسه، حالياً، هو عمل كل ما يلزم حتى لا تنبعث من المجتمع حركة مماثلة أو شبيهة بحركة 20 فبراير، وإجهاضها في المهد بكل الطرق إن هي ظهرت؛ غير أن واقع الحركات الاحتجاجية تَغَيَّرَ في اتجاه التنامي وحواجز الخوف انهارت نسبة عالية منها (إميدار- زاكورة – جرادة.. إلخ).

تفاقم المشكلة الانتخابية

  • فضلاً عن إشكال العزوف الواسع عن المشاركة الانتخابية، واستمرار الاعتراف العام بانتشار مظاهر الفساد الانتخابي واستعمال الأموال، أصبحت تصريحات الحزب، الذي يحتل منصب رئاسة الحكومة، وحديثه عن المضايقات والخروقات والتجاوزات، شهادة مزعجة للنظام وغير مسبوقة ولها الكثير من التداعيات على مستوى سمعته.

لكن من جهة أخرى، ظهر بأن الأعيان لم يعودوا قادرين على حسم الموقف لصالح النظام، بنفس السهولة التي كانت مُتاحة في الماضي، وباستعمال أساليبهم المعهودة التي بليت، في جزء منها، وظهرت بعض حدودها، وأصبح تدبير الانتخابات أكثر صعوبة ومشقة.

تعاظم نفوذ الأجهزة

  • تتجه الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وهياكل الإدارة الترابية، منذ عدة سنوات، نحو احتياز نفوذ مرعب. وتتكرس حصانتها، قانونياً وعملياً، وتتحول هذه الحصانة إلى ما يشبه القداسة، في ظل تقدير، من داخل النظام، بأن ذلك في صالحه.

بناء على قرار رسمي للنظام، تزايدت تدخلات الأجهزة وشملت مختلف الملفات والقضايا. وأصبح قرارها نافذاً ولا معقب عليه، وأصبحت أعمالها وتحركاتها مستفيدة من قاعدة الإفلات من العقاب كلما ارتبطت بالمجال السياسي. وأُهدرت توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة بسبب غياب الحكامة الأمنية. وأصبح بإمكانها أن تحصل على أقوى وأحدث الترسانات اللوجستيكية، غير المتوفرة، أحياناً، حتى لدى الدول المتقدمة، بدعوى الحرب على الإرهاب. ولا تتوفر للمغاربة، اليوم، أية ضمانات بأن حياتهم الخاصة واتصالاتهم ومراسلاتهم غير مراقبة. وتزايدت الضغوط السرية الموجهة إلى النخب السياسية والاقتصادية، ومشاريع “التأميم” السري للمنابر الإعلامية لضمان توجيهها. وأصبح الذين، من المفروض فيهم أن يراقبوا الأجهزة، هم من يخضع للمراقبة، وتَأَثَّرَ القضاء بهذا الامتداد المخيف لسلطاتها واختراقاتها.

أزمة مفهوم الملكية التنفيذية

  • أصبح مفهوم الملكية التنفيذية يعيش أزمة حقيقية، لم يعد بالإمكان إخفاؤها أو التستر عليها. لقد ظهرت أعطاب وتناقضات هذا المفهوم، ففي الوقت، الذي يَتِمُّ فيه الحديث عن فشل المشروع التنموي، فإن الملكية المغربية، باسم هذا المفهوم، كانت تُقَدَّمُ كقائدة لهذا المشروع. وباسم هذا المفهوم، أيضاً، فإن الجولات الطويلة، خارج المغرب، قد تطرح تساؤلاً حول مدى استجابتها لما يفرضه الدور، المترتب عن المفهوم المشار إليه، من متطلبات والتزامات وتبعات، وباسم هذا المفهوم تستخلص بعض مراكز النفوذ والدوائر المقربة شرعية التدخل في المجال الاقتصادي لمراكمة الثروات وفرض ضغط كبير على الموارد العامة واستثناء نفسها من تقديم التضحيات المفروض أن وضع البلاد يفرض تحملها من طرف مختلف فئات المجتمع.

لا أحد من المتتبعين يجهل أن هناك ارتباطاً بين مفهوم الملكية التنفيذية وخطة “الأبطال الوطنيين” التي اعتُمدت، من الناحية الاقتصادية، وأن عدد كبيراً من البرامج هي، في الأصل، مجرد عناوين تُحاط بهالة إعلامية في غياب أي تدقيق للمتطلبات وتوفير للمستلزمات وكلما فشل برنامج ما بسبب انعدام الجدية، تَتِمُّ محاولة التغطية على ذلك بالمزيد من التصرفات الطائشة.

الاعتراف الرسمي بفشل المشروع التنموي

  • : بعد أكثر من ستة عقود، ورغم بعض الإيجابيات المحدودة المتعلقة بمد شبكات الكهربة والماء الشروب وتطور بعض جوانب البنية التحتية، فلم يَلُحْ، بعد، بصيص الضوء، الذي يشير إلى نهاية النفق. الأرقام المعلنة، بخصوص مؤشرات التنمية البشرية، مخيفة ومقلقة.

المجتمع المغربي يُوجد، حالياً، على صفيح ساخن، والاحتجاجات الاجتماعية تنتشر كالفطر في كل مكان. الصورة الخارجية للمغرب غدت مرتبطة بمجموعة من المظاهر السلبية التي تُشْعِرُ عموم المغاربة بالأسى والألم. التعبيرات السريرية عن وجود أزمة في جوف المجتمع، تظهر على أكثر من صعيد. والشرخ الاجتماعي كبير ومنذر بأخطر الكوارث. وليس هناك مغربي واحد يمكنه أن ينكر استفحال ظواهر الرشوة والريع والفساد والنهب وإهدار المال العام. ويُسَجَّلُ أن المغرب الرسمي، لم يستفد، أبدًا، حتى من التقارير التي تصوغها عدد من المؤسسات الرسمية، كتقرير الخمسينية، الذي بقي حبراً على ورق، وتقارير المجلس الاقتصادي والاجتماعي وخلاصاتها وتوصياتها، وخاصة في مجال إرساء أسس التنمية المستدامة؛ كما لم تتم الاستفادة من تقارير مجلس المنافسة والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.

بالتالي ظلت جل تلك التقارير مجرد رماد يدر في العيون، وظلت تلك المؤسسات عاجزة عن إحداث أي تأثير فعلي في الواقع العملي وطريقة وضع السياسات العمومية.

تصعيد خطير في منسوب عنف الدولة

  • أصبح النظام يشعر، أكثر فأكثر، بأن ممارسة العنف تَحُلُّ جميع المشاكل وتوقف حركية الاحتجاج وتضمن الاستقرار، ولو بدون استجابة حقيقية للمطالب. وأصبح النضال السلمي يُنظر إليه كإرهاب، ولهذا الغرض، هناك قائمة من النصوص الجنائية الجاهزة لتطبيقها، في أية لحظة، على حالات لم تُوجد هذه النصوص، في الأصل، لتجريمها.

إن الخروج للاحتجاج على فقدان الماء في زاكورة، أصبح كافياً لاعتبار السكان المحرومين من الماء، ضالعين في جريمة المس بالأمن العام.

وبقدر ما يتم تكثيف الأوجه الحامية لحق الدولة في الأمن، ولو باستعمال طرق موغلة في التعسف والشطط، يُلاَحَظُ، يومياً، إهدار لحق المواطن في الأمن.

تشويه معنى ربط المسؤولية بالمحاسبة

  • من الأوهام التي يتم الترويج لها هذه الأيام، إمكان تحقيق ربط المسؤولية بالمحاسبة دون قيام ملكية برلمانية في البلاد، إذ لا معنى لتحميل مسؤولية فشل البرامج والقرارات، سياسيًا، لطرف لم يقررها.

أصبح ما يُسمى بربط المسؤولية السياسية بالمحاسبة يتم بعيدًا عن البرلمان، ويتم كما لو كان عقابًا إداريًا، بحجة أن البرلمان لا يتوفر على الوسائل البشرية واللوجستيكية اللازمة، وذلك في ظل نوع من الخلط الكبير بين الوجه القضائي للمسؤولية والوجه الإداري للمسؤولية والوجه السياسي للمسؤولية.

دفن الدستور

  • دستور 2011، رغم أنه بعيد عن استيفاء مقومات الدستور الديمقراطي، فلقد أُطلقت عليه رصاصات قاتلة؛ وهكذا، يَتِمُّ التصرف، اليوم، كما لو أن هذا الدستور لم يُوجد، قط، ولم يُحَطْ بهالة من الإكبار والتبجيل والتهليل، ولم يُقدم على أنه يرسم نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، ولم يحاول المدافعون عنه إقناع العالم كله بأن المغرب سيحقق، بواسطة هذا الدستور، معجزة لا تتحقق، بسهولة، للمجتمعات والبلدان الشقيقة، وكأن التحدث عن التأويل الديمقراطي للدستور لم يتم أبداً.

اليوم، أصبح الفصل 47 يُقرأ بنفس المضمون الذي كان ينطوي عليه الفصل 19، في الدساتير السابقة، وبناء عليه، أصبح بإمكان الملك إعفاء رئيس الحكومة، واعتبار الحكومة مسؤولة أمامه، وأصبح له حق إحالة أي ملف على المجلس الأعلى للحسابات، واتخاذ عقوبة المنع من تحمل أية مسؤولية في المستقبل، سواء كان التعيين فيها من اختصاص مجلس الحكومة أو مجلس الوزراء، أو تولى فيها الحزب ترشيح أحد أعضائه لها وزكت صناديق الاقتراع ذلك.

ومن جهة أخرى، أصبح من الصعب، على أي كان، إنكار وجود خلل كبير في دستور 2011 وانطوائه على العديد من التناقضات وأوجه النقص والبياضات.

طبعًا، هناك من يشير إلى هذه الاختلالات من أجل الوصول إلى دستور ديمقراطي، وهناك من يستحضرها من أجل تبرير تجميد العناصر الإيجابية في دستور غير ديمقراطي.

البرنامج الحزبي المطلوب : التحضير لعرض سياسي جديد في أفق الانتقال الديمقراطي

البرنامج الحزبي المطلوب :

التحضير لعرض سياسي جديد في أفق الانتقال الديمقراطي

في هذا الباب سنتناول، أولاً : مفهوم ومقومات ومتطلبات العرض السياسي الجديد، وثانياً : أفق الانتقال الديمقراطي كما يتبدى لنا في المغرب والخطوات التي سينهض على أساسها وشروط إنجاحه. وتحديد المحورين الكبيرين لاشتغالنا، في هذه المرحلة السياسية، لا يعني إعفاء مؤسساتنا الحزبية من صياغة البرامج القطاعية الضرورية التي تتجاوب مع الحاجيات المباشرة للمواطنين والواجبات اليومية للمناضلين، والتي تستلهم مضامينها وخلفياتها من طبيعة المحورين الكبيرين المشار إليهما في هذا الباب.

التحضير لعرض حزبي جديد، في المغرب، هو تعبير عن حاجة موضوعية من أجل استكمال مهام النضال الديمقراطي. وظهور حزب يساري جديد يمثل حدثاً استثنائياً في زمن استثنائي وسياق استثنائي، من أجل فتح أفق ديمقراطي بعد فشل المشروعين المخزني والأصولي في تجنيب البلاد خطر التوجه نحو المجهول. ولن تتحقق الأهداف المرجوة والمأمولة بدون تجميع الطاقات الكافية لتغيير ميزان القوى، والحرص على عدم الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى تراجع وانكماش اليسار الديمقراطي المغربي.

العمل من أجل خلق هذا الحزب الجديد ليس مجرد استجابة لحاجة كمية وعددية، أي التوفر على حزب بعدد أوفر من المناضلين والأعضاء، ولكن الأمر يتعلق بخلق كيان حزبي قادر على سد خصاص مريع قائم.

يُقال إن الأحزاب اليسارية في المغرب تعاني، فقط، من ضعف عدد المنتسبين، ومن مشاكل في تسويق مشروعها والتعريف بأفكارها، ومن آثار انهيار جدار برلين وهجوم الليبرالية المتوحشة، ومن نوع من التكلس الإيديولوجي. ولكن الحقيقة أنها تعاني أساساً من تراجع المصداقية بسبب عدم الوفاء بالتعهدات، وتبني سياسات مجردة من كل قيد متعلق بالمبادئ، ومن انحدار أخلاقي في الوسائل المستعملة، وغلبة الطموحات الشخصية، ومن عقد تسويات غير منتجة وغير قادرة على توفير فرص حقيقية لتغيير الأوضاع، جذريًا، نحو الأفضل.

نريد أن يخلق حدث الإعلان عن المولود الحزبي الجديد رجة سياسية في البلاد، ويدفع فئات من الشباب والمواطنين إلى القطع مع اختيار العزوف الانتخابي، والوعي بأهمية الإدلاء بالصوت الانتخابي في المسار الطويل للتغيير، والشعور بأن الفكرة اليسارية لم تنته في المغرب بمجرد انهيار منظومة الأحزاب التي كان لها شرف زرعها وتعهدها في التربة المغربية أيام زمان. ونريد أن يساهم الحدث في تحرير الطاقات، وبعث الثقة في إمكان صنع بدائل، والاتعاض من تعثرات التجارب السابقة، وفتح فضاء جديد للفعل السياسي النقي والنبيل والفاعل، وضمان تلاقح التجارب والخبرات.

ونريد أن تكون عملية الإعداد لظهور المولود الجديد، مناسبة لاستقطاب الفعاليات التقدمية التي اختارت، بسبب وضع الهياكل الحزبية اليسارية التقليدية ومآلها الدرامي، أن تكتفي بالعمل في حقل المجتمع المدني، وأحياناً بواسطة ممارسة نضال سياسي داخل هذا الحقل، في انتظار ظهور حاضنة سياسية جديدة جديرة بالثقة، واستقطاب أعضاء تلك الهياكل الرافضين لسلوك قياداتها وخطها السياسي المدعم لاستمرار وتكريس السلطوية في بلادنا.

إن مدخل الأفق الذي نتجه إليه هو الاندماج، والاندماج نريد أن يكون مناسبة لدمج فعاليات وأطر سياسية مختلفة وكيانات مدنية في بنية حزبية جديدة. يجب أن ننفتح على أكثر ما يمكن من التجارب الحية في المجتمع، ففكرة العرض السياسي الجديد هي أكبر من عملية اندماج ثلاثي أي اندماج الأحزاب المكونة لفيدرالية اليسار الديمقراطي.

هناك طَلَبٌ حاد، في المغرب، على خلق حزب جديد، يساري ديمقراطي، حزب المؤسسات، الحزب الذي لن يكتفي بالتشكل على قاعدة استيعاب أحزاب الفيدرالية، ولكنه سيمثل محطة التقاء لأكبر قدر من اليساريين والتقدميين الذين يُحَوِّلُونَ تاريخ الميلاد إلى حدث سياسي وطني يَعِدُ بضخ نَفَسٍ جديد في رئة البلاد.

الحاجة ماسة إلى حزب يساري، متجدد، فاعل في الأحداث، غني بتعدده، منفتح، متمسك بأخلاق عالية، يقظ، حريص على احترام التعاقدات، قادر على استثمار الآليات الحديثة للتواصل وعلى التجديد وتعبئة الشباب والنساء، وعلى المبادرة والإبداع، وصهر مختلف التجارب الشعبية والحزبية المفيدة، والتزام روح المسؤولية وسرعة التجاوب مع تطور الأحداث، وتكثيف مجهود المتابعة والمواكبة، واقتراح الحلول وإعداد الملفات، مع ضرورة التحلي بممارسة النقد والنقد الذاتي في الممارسات والاستفادة، أساسًا، من أخطاء الغير في مسار الأحزاب اليسارية المغربية لاستخلاص الدروس والعبر الضرورية لبناء المستقبل على قاعدة الوضوح وتجاوز الأخطاء القاتلة.

وبالنسبة إلى أحزاب الفيدرالية، فإن استشراف الأفق الاندماجي لا يتعارض مع سعي كل حزب، منها، لتقوية ذاته، ففي هذه التقوية مساهمة في تقوية الحزب الذي سَيَتَوَلَّدُ عن اندماج واحد، بين الأحزاب الثلاثة وبين الفعاليات والحساسيات والأطر والكيانات المدنية المعنية بالمساهمة في خلق الحزب الجديد.

وفي انتظار بروز الحزب الجديد، يتعين الالتزام بكل متطلبات المسار الاندماجي، ولذلك يجب أن نشخص، في علاقاتنا كأحزاب ثلاثة، وفي سلوكات كل طرف منا، وجود الإرادة الواضحة والحاسمة والوطيدة لإنجاح هذا المسار، ونعمل على الإزاحة التدريجية لكل العوائق وتذليل الصعاب التي قد تواجهه عن طريق الحوار الرفاقي والاحترام المتبادل وتثمين المنجز المشترك وتقريب وجهات النظر بخصوص صيغ العمل التنظيمية والنقابية المتبناة من طرفنا.

إننا نتصور أن العرض السياسي الجديد سيكون جاهزاً قبل موعد الانتخابات المقبلة، ولذلك يتوجب علينا بذل كل المجهودات الضرورية الكفيلة بإنجاح هذه الخطوة.

طبعًا، كانت بيننا في الماضي، كأحزاب ثلاثة، بعض الاختلافات في التقدير السياسي، بصدد تناول عدد من القضايا. وتقوم، بيننا حالياً، بعض التمايزات، التي نعمل على معالجتها، في تدبير ومعالجة عدد من القضايا والملفات، وخاصة في ما يتعلق بالثقافة التنظيمية القائمة داخل كل حزب وببعض آليات العمل وأسلوب التعبير. ولكن علينا الاعتراف بأننا نجحنا، إلى حد ما، في تقليص بعض تلك التمايزات، من خلال الوثائق المرجعية لفيدرالية اليسار الديمقراطي، ومن خلال المواقف المستجدة والتطورات الحاصلة على صعيد ممارسة أطراف الفيدرالية.

سيكون علينا، في المدة المتبقية، تسريع وتيرة التنسيق والعمل الوحدوي بين تنظيمات وهياكل الأحزاب الثلاثة، وطنياً وإقليمياً ومحلياً وقطاعياً، طبقًا للبرنامج المسطر، وخوض حوارات ولقاءات تحضيرية للحدث السياسي النوعي، وأنشطة عمومية تعبوية مشتركة في مختلف مناطق المغرب، وتنظيم الجامعات الموضوعاتية من طرف الفيدرالية بمعدل جامعة كل 6 أشهر، لتيسير شروط الاندماج، وتجسير العلاقات الرفاقية بين المكونات، وتُدمج في هذه الجامعات الفعاليات التي يمكن أن تسهم في بناء الاندماج مع تحبيذ تنويع مدن وجهات تنظيم هذه الجامعات.

والعلاقة مع ما يمكن أن نسميه بـ “المكون الرابع”، لن تكون عملية إدماج في حزب جاهز ومعلن عنه وقائم، بل يجب أن تتخذ شكل عملية بناء مشتركة لهذا الحزب، الذي لن يكتفي باستثمار كل ما هو إيجابي، في تجربة كل حزب من الأحزاب الثلاثة، بل سيباشر استثمار كل ما هو إيجابي في التجارب القائمة في الساحة الوطنية.

يجب أن لا يظل، في المغرب، كيان أو تيار أو بؤرة فعل، ذو خلفية ديمقراطية ويسارية تقدمية حقيقية، بعيداً عن اهتمامنا وسعينا للتجميع ومبادراتنا بفتح الحوار والتعاون على طريق بناء العرض السياسي الجديد.

وبمعنى آخر، فإننا لن نقوم بالاندماج الثلاثي وإعلان الحزب المترتب عن ذلك، ثم نتولى إلحاق “الآخرين” بهذا الحزب، بل يجب أن يشارك هؤلاء، معنا، في بناء الحزب الجديد.

وما سيتميز به هذا الحزب، أساساً، هو الجمع بين الفعالية والمبادئ. إن التزامنا بالمبادئ من موقع هامشي وبأدوات ضعيفة التأثير والفعل، لا يكفي، وخرقنا للمبادئ من أجل تبوأ مكانة وازنة في الحقل المؤسسي، مرفوض بشكل مطلق.

وفي رحلة السعي لإعداد العرض السياسي الجديد، علينا استحضار مجموعة من الواجبات والأهداف التي من شأنها أن تجعل هذا العرض في المستوى المطلوب والمنتظر.

يجب علينا التمسك بخصلة التواضع، وهذا يفرض علينا التمسك بفضيلة النقد الذاتي والاعتراف بأخطائنا، وبأننا رغم النقد السديد الذي وجهناه إلى مسار اليسار التقليدي، لم نستطع، من الناحية العملية، ضع بديل وازن عن هذا اليسار.

كما يتعين علينا الاعتراف بأمر واقع قائم على الأرض، تسنده معطيات ملموسة، وهو عدم قدرة أي من الأحزاب اليسارية، التي لم يسبق لها المشاركة في الحكومة، أن يشكل، لوحده، الإطار الذي ستتجمع داخله، وتنظوي في لوائه، مختلف الطاقات والفعاليات الراغبة في مد البلاد بهيكل حزبي قوي وفاعل، قادر على تجنب أخطاء التجارب السابقة. إن من الوهم الاعتقاد بأن عملية إعادة البناء المطلوبة ستتم داخل إطار بعينه، وأن هذا الإطار موجود في الساحة وجاهز لاستقبال كل من يريد المساهمة في إنجاز تلك العملية.

علينا احترام المنظومة الأخلاقية في السياسة، وخاصة من خلال العمل على تنفيذ الوعود، ومصارحة الجماهير بالحقائق، وتشخيص المعنى التعاقدي للسياسة، واستعمال الوسائل النزيهة، وتدبير الشؤون الحزبية الداخلية وفق قواعد الديمقراطية المنفتحة، وقبول النقد والنقد الذاتي وعدم تقديس القادة مع الالتزام بالاحترام المتبادل، وضمان الحق في تكوين تيارات، وعدم احتكار القيادة لحق استعمال اللوجستيك الحزبي، وربط المشاركة الحكومية بتوفر وسائل تطبيق البرنامج وبوجود أغلبية منسجمة وغير ذلك من الشروط التي سبق تفصيلها في هذه الأرضية، وتوفير وسائل ضمان ممارسة المواطنين لنوع من الرقابة على أداء المنتخبين والأعضاء ومحاسبتهم.

علينا محاولة استثمار الدروس والعبر المستخلصة من حركة 20 فبراير، وتقوية النَفَس الذي ضخته في المجتمع، والاستفادة من الحقائق التي أكدتها، وخاصة تلك الحقيقة التي تفيد أن بلادنا تتوفر على خزان نضالي شاب يريد أن يعيش المغاربة، في كنف ديمقراطية كاملة تطابق مثيلاتها في العالم، ويتابع التطورات ويستوعب حقائق العصر وعلومه ومعارفه، ويطمح إلى دخول بلادنا عهد الانتقال الديمقراطي وفق ما هو متعارف عليه من مساطر وأخلاقيات ومقومات وعمليات.

علينا الابتعاد عن نهج الوصاية على الأجيال الجديدة. لقد أثبتت حركة 20 فبراير، والكثير من الحركات الاجتماعية والإبداعية والفكرية، أن المغرب يزخر بالطاقات الشابة الواعدة، وأن الجديد سيتولد من عملية تلاقح التجارب والمدارس والأعمار. إن المناضلين الذين قادوا اليسار، في المراحل السابقة، لا يمكن لهم أن ينطلقوا من أن ذلك يمنحهم تفويضاً مطلقاً لقيادة المرحلة المقبلة وللتعامل مع الشباب كمريدين وأتباع منقادين و”يد عاملة” سياسية، بل إن التكامل والتلاقح والتفاعل الإيجابي هي أسس ضرورية لبناء التنظيم المتجدد الذي نطمح إليه.

علينا تأكيد الالتزام بالخط الثالث، باعتباره الاختيار الوحيد الذي يشخص الانتماء الحقيقي إلى الديمقراطية، فهو يفضح طبيعة الصراع القائم، حالياً، بين الأصولية المخزنية والأصولية الإسلاموية، والذي ليس صراعاً من أجل الديمقراطية أو من أجل الحداثة، إذ تتوافق الأصوليتان وتتحالفان معاً على تعطيل إمكانات التطور الديمقراطي الحقيقي، ولضمان استمرار السلطوية كهدف للأصولية المخزنية، ولضمان “التمكين” كهدف للأصولية الإسلاموية.

مشكلة النظام مع حزب العدالة والتنمية ليست مشكلة حداثة لأن النظام، نفسه، يرفض الحداثة السياسية. ومشكلة هذا الحزب مع النظام، حتى الآن وفي الواقع العيني، ليست مشكلة الديمقراطية لأن هذا الحزب يريد المناصب والمواقع ولو مقابل السكوت عن المطالبة بالديمقراطية، أي بجوهر الديمقراطية. هو يطالب بحقوقه الديمقراطية كحزب، وقد يقول قائل إن في ذلك مطالبة بالديمقراطية. وهذا صحيح من بعض الوجوه، ولكن الحقيقة الساطعة هي أنه يطالب بالجزئي على حساب الكلي والجوهري. ينتفض، فقط، إذا مُسَّتْ حقوقه في التربع على الكراسي، ولا ينتفض إذا مُسَّتْ حقوق الشعب كله، أو وصل الأمر في البلاد إلى حد إهدار المكتسبات التي ضحى من أجلها خيرة أبناء شعبنا قبل ظهور الحزب الإسلامي، نفسه.

المهمة الجوهرية التي تقع على عاتقنا، كديمقراطيين، في المرحلة السياسية الراهنة، هي العمل على الوصول ببلادنا إلى الديمقراطية الحق في إطار الملكية البرلمانية، وبرنامجنا العام، إذن، هو تحضير شروط الانتقال الديمقراطي.

وحتى ننهض بهذه المهمة، على الوجه الأمثل، نحن مطالبون بتوضيح وتدقيق مفهوم الانتقال الديمقراطي، والسعي لخلق جبهة ديمقراطية ضاغطة في اتجاه هذا الانتقال، والعمل على قيام دستور الملكية البرلمانية، وتحقيق الإجراءات والتدابير التي تصاحب، عادة، مثل هذا الدستور (دستور الانتقال الديمقراطي).

الانتقال الديمقراطي هو مسلسل سياسي متكامل يَتِّمُ، من خلاله التخلص من وضع لا ديمقراطي والعبور إلى الديمقراطية.

هذا المسلسل يتطلب بعض الوقت، طبعاً، ويمر عادة من مرحلة انفتاح سياسي إلى مرحلة تصليب الديمقراطية.

والتعاقدات التي تنشأ حول المساطر وقواعد اللعبة بين الأطراف السياسية، لا تعني تجميد الصراع أو إنهاء الصراع، مستقبلاًَ، بل ترمي إلى تهذيبه وإخضاعه إلى أسس سلمية، مدنية، وحضارية وأخلاقية.

والالتزامات الجديدة التي تتفرع عن مسلسل الانتقال تُفرض على “الجميع” سواء تعلق الأمر بممثلي نظام قائم أو بممثلي الأطراف السياسية الأخرى.

أصبح اليوم بإمكان “الشرارة”، التي تلعب الدور الأساسي في تحريك مسلسل الانتقال، أن تتخذ صورة سلمية وأن تنجح في جر أطراف اللعبة السياسية إلى دائرة الحوار المفضي إلى صياغة مشتركة لخارطة الانتقال نحو الديمقراطية.

الوضع اللاديمقراطي يمنح للحاكمين امتيازات لا يتخلون عنها بسهولة، ولذلك فإن بذلهم لأي تنازل وقبولهم بالديمقراطية سيكون رهيناً بحجم النضال الذي ستقوم به القوى الديمقراطية والضغط الذي ستمارسه على الحاكمين.

الانتقال الديمقراطي، مغربياً، هو المرور من نظام الملكية شبه المطلقة، أو النظام السلطوي (الملكية التنفيذية)، إلى نظام الملكية البرلمانية.

في الماضي، كانت الجمهورية، وحدها، هي التي تشخص الحرية والديمقراطية وحكم الشعب ودولة القانون، اليوم يتوفر العالم على ملكيات نجحت في اختبار العبور إلى الديمقراطية، هذا لم يكن سهلاً ولكن التجربة دلت على أنه ممكن دائماً.

لقد كانت هنالك عدة فرص لفرض انطلاق مسلسل للتغيير الحقيقي المفضي إلى الديمقراطية، واضطرت الملكية إلى بذل بعض التنازلات، أحياناً، ولكنها، حتى الآن، ترفض التنازل عن ما هو أساسي وهو سلطة التقرير ووضع البرامج والاختيارات وممارسة الحكم، ونجحت، دائماً، في استغلال تناقضات الأطراف الأخرى لتجنب الوصول إلى الديمقراطية أو اقتسام السلطة، وفي احتواء جزء من الصف الديمقراطي.

وإذا كانت الإرادة السياسية هي أهم شيء في الانتقال الديمقراطي، وهي التسليم بضرورة الديمقراطية وجدواها، والاستعداد التام لتحمل كل تبعاتها ونتائجها، فإن أهم شيء في خطة الوصول إلى ذلك، هو بناء جبهة ضاغطة قادرة على تعبئة الشعب وتجنيده في معركة الانتقال الديمقراطي.

وفي الإجمال، يمكن القول بحصول الانتقال الديمقراطي المفترض، إذا تجلى، من خلال مؤشرات ملموسة، وجود إرادة سياسية للتغيير تَقْبَلُ بشرعية التداول، وانطلاق مسلسل للتغيير العميق والجوهري، وقيام مسار انفتاحي يتسع فيه فضاء الحريات، وتحقيق مصالحة واعتراف متبادل بين الأطراف، والتزام فعلي بوثيقة دستورية ليست وثيقة غالب على مغلوب، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، مُؤَسِّسَةٍ، وإنجاز إصلاح اقتصادي واجتماعي حقيقي، وانبثاق قيادة ناجعة ذات مصداقية، ودخول مرحلة تصليب الديمقراطية أي وضع البلاد على طريق السكة النهائية للديمقراطية.

منطق الانتقال الديمقراطي ليس انتصاراً لإديولوجية ما، ولا يعني وجود مرحلة بياض كامل بين عهدين، وهو، عموماً، يرمي إلى إقرار الديمقراطية وليس إلى تمكين الثوار من السطو على الحكم وادعاء الحق في أن يحكموا البلد لمجرد أنهم ثوار، أي لعبوا الدور الأساسي الذي بمقتضاه تم وضع حد لاستمرار عهد سابق.

ونحن في المغرب، لم نُقْدِمْ، بعد، على الخطوة النوعية الحاسمة التي تعني شروعًا في مسار الانتقال الديمقراطي. حصلت في المغرب عدة “انتقالات”، بمناسبات مختلفة، ولكنها لا تحمل مقومات الانتقال الديمقراطي.

حصل انتقال المُلْكِ، وحصلت “انتقالات حكومية”، أي تغييرات في تركيبة الحكومة الاسمية وانتقال وجوه أمضت مددًا طويلة في المعارضة إلى ضفة المشاركة الحكومية.

الانتقال الديمقراطي هو ضرورة مجتمعية من أجل توفير مقومات الاستقرار والتقدم والتنمية والنهضة الحضارية، وبدونه، وانطلاقًا مما يجري في المنطقة العربية والمغاربية، فلا يمكن التكهن بالكوارث التي يمكن أن تَحُلَّ ببلدنا.

المغرب في حاجة إلى انتقال ديمقراطي حقيقي، لأننا نعيش في ظل وضع سلطوي، فهناك تعبيرات سياسية توجد خارج المؤسسات، والانتخابات المغربية تفتقد مقومات الانتخابات الحرة والمفتوحة والنزيهة وتجري وفق مساطر مجحفة وتقطيع “محذوم” وعزوف أغلبية الناخبين.

والقصر مستمر في لعب دور المقرر الأساسي للسياسات العمومية والحاضن، بين ثناياه، للحكومة الفعلية القارة.

ومصير الأحزاب الإدارية وأحزاب سنوات الرصاص والجلادين ومزوري الانتخابات، لم يتحدد طبقًا للأسس التي تسمح بالحديث عن طي لصفحة الماضي وإشاعة للحقيقة وإنصاف للضحايا وتأمين المستقبل. وعمل هيأة الإنصاف، المحدثة في المغرب، بعد تربع الملك محمد السادس على العرش، لم تتجاوز حدود المصالحة المبتورة والناقصة مع جزء من المجتمع، فقط، وبدون تقديم أية ضمانات حقيقية لعدم التكرار. والدليل على ذلك أنه جرى اللجوء، من جديد، إلى ذات الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان بعد أحداث 16 ماي 2003 الأليمة.

وأدوار ووظائف وتدخلات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وهياكل الإدارة الترابية تَضَخَّمَتْ، بشكل عنقائي، وتمكنت من الحصول على نوع من الحصانة الفعلية الاستثنائية.

والدساتير المغربية ظلت دون مستوى الحد الأدنى المطلوب في الدستور الديمقراطي، ولم نتوصل بعد إلى الصيغة التي تضمن تحول البرنامج الحكومي إلى البرنامج العام الوحيد للدولة.

لابد من النضال لتحقيق الانتقال، وهذا النضال يحتاج إلى جبهة للقوى المستقلة والديمقراطية والنزيهة التي تقود أطواره. المفروض أن يكون اليساريون جزءًا من هذه الجبهة، ولهذا تتعين إعادة بناء اليسار ليكون قادراً على تجاوز الأخطاء واسترجاع القوة التي تسمح بلعب دور حيوي داخل هذه الجبهة.

والمفروض أن تضم الجبهة كل الديمقراطيين، بمختلف مشاربهم، من ليبراليين وإسلاميين وقوميين ونشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية، وكل التعبيرات التي ترى أن المهمة الجوهرية المطروحة عليها، في المرحلة الراهنة، هي قيادة نضال مشترك من أجل إقامة نظام الملكية البرلمانية، في المغرب، باعتبارها الصيغة التي تضمن تسييد كلمة الشعب، في ظل الطابع الوراثي للملكية، وتكفل احترام المقومات الجوهرية للديمقراطية.

مكونات الجبهة يتعين، في نظرنا، أن تتعاقد على أسس التعامل في ما بينها، عبر صياغة ميثاق مُلْزِمٍ، وعلى مراحل إنجاز مشروع الانتقال الديمقراطي وشروط إنجاحه. ورفع هذه المكونات شعار (الملكية البرلمانية) لا يكفي، إذ يجب، أولاً، أن ينعكس مضمون هذا الشعار على خطاباتها وبرامجها وسلوك أعضائها ومنطق اشتغالها. ويجب، ثانياً، أن تكون ملتزمة بخيار النضال السلمي ورفض العنف بمختلف أشكاله ويجب، ثالثاً، أن تعتمد وسائل نزيهة وترفض أي استعمال للوسائل المنافية للقواعد الأخلاقية المتعارف عليها في السجل الديمقراطي. ويجب، رابعاً، أن تكون متمتعة باستقلالها عن جهاز “الدولة” وعن “أحزاب الدولة” وترفض أن يؤول إليها أي امتياز أو دعم أو فائدة من المصدرين المشار إليهما.

إن بناء الجبهة، على أسس سليمة، يقتضي أن تبلغ الأطراف التي ستنظوي، تحت لوائها، درجة عالية من النضج والتشبع بالثقافة الديمقراطية وروح الانتقال الديمقراطي، وتكون قادرة على :

  • وضع تصور واضح للانتقال الديمقراطي في زمان ومكان معينين.
  • وضع برنامج يحدد الخطوات العملية المطلوبة لإدخال ذلك التصور حيز التطبيق.
  • إثبات مصداقيتها ونزاهتها. المصداقية ليست مجرد وصف يطلقه تنظيم سياسي على نفسه، إنها واقع ملموس تتبين ملامحه من خلال تعاطف الناس مع التنظيم وثقتهم فيه وفي نزاهته واحترامهم له ولقادته. وبهذا المعنى، فإن المصداقية ليست هي ما نقوله عن أنفسنا، بل هي ما يقوله الناس عنا.
  • امتلاك القدر المطلوب من النجاعة والفعالية وإمكان التأثير في سير الأحداث ورعاية فصول الانتقال، وتحقيق نتائج انتخابية مهمة، في اقتراع تعددي نزيه وحر.

والحكومة الانتقالية، التي يمكن أن تفرزها حركية الانتقال الديمقراطي، يجب أن تتسم بالقدرة على تخطي عقبات العبور والتغلب على المصاعب، وأن تتوفر على طاقة التحمل وروح الاعتدال، وأن تعكس وجود أغلبية إصلاحية مستقلة ونزيهة، وأن تلتزم بتطبيق برنامج يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة الانتقالية ويستجيب لمتطلباتها.

ويُقصد به الدستور الذي تجتمع فيه مقومات الملكية البرلمانية.

لا يجب أن يُنظر إلى الملكية البرلمانية على أنها اختيار يخص عائلة سياسية بعينها، فكل الديمقراطيين، بتعدد مذاهبهم وفصائلهم، الذين لا ينازعون في شرعية النظام الملكي، يجب أن يكونوا في صف الملكية البرلمانية.

لكن، يُلاحظ أن بعض التنظيمات تُعلن أن الملكية البرلمانية مآل حتمي أو ضروري وأنها مع الملكية البرلمانية كـ “أفق” لنضالها وعملها، ولكنها، في الواقع العملي، لا تعمل إلا على جعل هذا الأفق يرتسم في أبعد نقطة، وذلك عن طريق منح السلطوية، في كل مرة، نفساً جديداً.

الملكية البرلمانية، في تصورنا، يتعين أن تُبنى الآن، وهذه هي الرسالة التي بعث بها إلى الجميع شباب النواة الأصلية لحركة 20 فبراير.

إن دستور الملكية البرلمانية هو الدستور الذي يضمن قيام الديمقراطية في دولة مدنية ولامركزية، تعترف بالسيادة الشعبية وفصل السلطات وحقوق الإنسان والتمثيل النيابي الدوري والتعددي والتداول على السلطة، وتُحَلُّ، في كنفها، مشكلة وجود ازدواجية بين سلطة “الدولة” وسلطة “الحكومة”، وتضمن الانتقال من نموذج الحكومة “المحكومة” إلى نموذج الحكومة “الحاكمة” التي تدير كافة مناحي الشأن العام وتملك وسائل ذلك.

ونؤكد، في هذا الصدد، تشبثنا بالمقتضيات الدستورية التي سبق أن اقترحناها لتكون أساس وضع دستور جديد، ومنها على الخصوص :

“- التنصيص على الدولة المدنية الديمقراطية الحداثية، وحرية المعتقد، ورفع كافة القيود التي تحد من المساواة بين الرجل والمرأة.

  • للملك دور رمزي، فتحديد التوجهات والبرامج تقرره صناديق الاقتراع.
  • حصر لقب إمارة المؤمنين في سلطة الإشراف الرمزي على ممارسة المغاربة لشعائرهم.
  • تعيين الملك في منصب رئيس الحكومة الشخصية التي يتبين – من خلال الاستشارات التي يجريها رئيس مجلس النواب مع ممثلي الأحزاب والكتل الممثلة في المجلس- أنها تحظى بمساندة أكبر تكتل لأعضاء مجلس النواب.
  • أداء الملك للقسم، والتزامه بعدم إعفاء أي وزير بدون اقتراح من رئيس الحكومة.
  • التقييد الزمني لحالة الاستثناء وممارسة الصلاحيات المترتبة عنها من طرف رئيس الحكومة.
  • تدبير حالة عجز الملك.
  • اعتبار حق لجوئه إلى المحكمة الدستورية كافياً بدون حاجة إلى طلب قراءة ثانية لما يصدر عن البرلمان.
  • اعتماد هيأة دستورية مستقلة للإشراف على الانتخابات.
  • تعزيز ترسانة الحقوق وتوفير ضمانات فعلية، ودسترة مجموعة من أحكام مدونة الأسرة، وتحديد مهمة القوات العمومية في حماية ممارسة الحقوق والحريات وضمان أمن المواطنين، وإلغاء عقوبة الإعدام، والتنصيص على حق التعويض عن البطالة.
  • رئيس الحكومة هو الرئيس الفعلي والوحيد للسلطة التنفيذية.
  • يمارس مجلس الحكومة دراسة كافة القضايا التي تهم السياسية العامة للدولة ومشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية، وغير ذلك من القضايا، بينما ينحصر دور مجلس الوزراء في تناول حالات خاصة (الحصار – إشهار الحرب في حالة الاستعجال – طلب الثقة – تعديل الدستور – مباشرة اختصاصات مجلس النواب مؤقتا بعد حله).
  • يدخل ضمن اختصاصات الحكومة حق إدارة السياسة الأمنية، وشؤون الدفاع الوطني، والسياسة الخارجية، وتدبير قطاعي العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، ويمثل وزراء الداخلية والدفاع الوطني والشؤون الخارجية والعدل والشؤون الإسلامية والأوقاف جزءا لا يتجزأ من الفريق الحكومي المتضامن والمسؤول أمام الناخبين والناخبات.
  • تباشر الحكومة سلطة التعيين في كافة الوظائف المدنية السامية، ومناصب الإدارة الترابية والأمنية.
  • تخضع كافة الإدارات والمؤسسات والصناديق العمومية لإشراف الحكومة ومراقبة السلطة التشريعية.
  • الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بكافة تشكيلاتها وأصنافها، تُوضع تحت إشراف الحكومة ومراقبة السلطتين التشريعية والقضائية، ورئيس الحكومة يُعتبر بمثابة أعلى سلطة رئاسية بالنسبة لتلك الأجهزة.
  • يُطْلِعُ الملك الحكومة على مضمون خطابه إلى الشعب، ويتلقى موافقتها قبل إلقائه.
  • رئاسة الملك لمجلس الوزراء رئاسة شرفية، فرئيس الحكومة هو من يتولى إعداد جدول الأعمال وإعداد ظروف الاجتماع والدعوة إليه.
  • الحصانة الكاملة لأعضاء مجلس النواب عند الإدلاء بالرأي.
  • لمجلس النواب حق إصدار ملتمس بإقالة وزير من الوزراء بعد استجوابه.
  • بعض المناصب الأساسية العليا المحددة بقانون تنظيمي تُستكمل مسطرة التعيين فيها بمصادقة لجنة مختصة من لجان مجلس النواب، وتُشترط المصادقة بنفس الطريقة على الوزراء المقترحين خلال التعديلات الجزئية.
  • يُشترط في المرشح لانتخابات مجلس النواب التوفر على مستوى تعليمي يؤهله لحسن القيام بمأموريته.
  • رئاسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية تُسند إلى أحد القضاة بالانتخاب.
  • إحداث توازن في تركيبة المحكمة الدستورية، ورئيسها يكون بالانتخاب.
  • إحداث توازن في تركيبة المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري، ورئيسه يكون بالانتخاب.
  • اعتماد بنية دولة لامركزية ترتكز على الجمع بين الإفادة من التجارب العالمية الناجحة، ومن الوجه الخلاق لتراث المغاربة عبر التاريخ.

وقـد كـانت مذكـرة الحزب الاشتراكي الموحـد حول الجهوية، المؤرخـة بـ14 فبراير 2010، قد أشارت إلى أن الجهوية المتقدمة لا يمكن أن تنجح في بلادنا إلا إذا جاءت “في سياق اختيار الديمقراطية الحقة كأسلوب لتدبير الشأن العام وطنياً، ثم جهويا ومحليا؛ ففي كل التجارب الديمقراطية الناجحة في العالم، يأتي توسيع التدبير الديمقراطي الجهوي مكملاً، بشكل مواز أو لاحق، لترسيخ الديمقراطية على المستوى المركزي، من حيث فصل السلط وتوازنها، وانبثاق المؤسسات من الإرادة الشعبية عبر الاقتراع العام. كما أن الرسوخ الكامل للاختيار الديمقراطي، على مستوى المؤسسات السياسية المركزية، بناء على قواعد تعاقد مجتمعي وسياسي واسع، يمثل ضمانة أساسية لتعزيز الوحدة الترابية والشعور بالانتماء الوطني”.

وأكدت المذكرة أن قيام المؤسسات الجهوية بمهامها يتطلب “منحها صلاحيات حقيقية، تقريرية وتنفيذية واسعة، لا يَحُدُّ منها إلا احترام الدستور والقانون التنظيمي. وتتمتع الجهات بالشخصية المعنوية والاستقلال الذاتي، في تدبير شؤونها، طبقاً لقواعد الدستور والقوانين الوطنية. ويمكن أن تُعطى للجهات صلاحيات تدريجية حسب تعاقدات متجددة مع الحكومة المركزية، يصادق عليها البرلمان.

وفي جميع الأحوال، يجب أن تتمتع الهيئة التداولية للجهة بصلاحيات، في المجال الضريبي لتتمكن من التحكم، ولو جزئياً، في مواردها المالية، وذلك بتحويل حق جباية بعض أصناف الضرائب، التي تختص بها الدولة حالياً، إلى الجهات، دون إثقال كاهل المواطن بضرائب جديدة، كما تتمتع الجهات بصلاحية تحديد وإنجاز استثماراتها في التجهيزات الأساسية، وبالصلاحية الكاملة في التسيير المادي والإداري للخدمات الاجتماعية الأساسية، من تعليم وصحة وثقافة وغيرها…”.

لقد أكد الواقع العملي وجاهة ملاحظاتنا بخصوص دستور 2011، وخاصة عجزه عن حل بعض المشاكل الطارئة، مثل عجز رئيس الحكومة المعين عن تأليف الحكومة. ونؤكد، من جانبنا اليوم، أن الصيغة التي نقترحها كحزب لتعيين رئيس الحكومة تتلافى المطب الذي تَمَّ الوقوع فيه، بعد انتخابات 2016، ذلك أننا نرى أن يكون التفاوض بين الأحزاب والتكتلات، في مجلس النواب، هو الأساس لتحديد الشخصية التي يتولى الملك تعيينها، على أن تحرص الأحزاب، بصورة مسبقة، على إعلان أسماء الشخصيات التي تقترحها لرئاسة الحكومة في حالة الفوز.

يفترض الانتقال الديمقراطي حصول تفاهمات حول عدد من التدابير الضرورية لتحصين الانتقال وحمايته وتحقيق الأهداف المنتظرة منه، وهيكلة اللعبة السياسية وفق قواعد تضمن لها أكبر قدر من الثبات والاستمرار، بحيث لا تفكر أغلبية جديدة في مراجعتها كما تُراجع البرامج والقوانين “العادية”، ومن أهم الإجراءات التي نرى أن ترافق صدور الوثيقة الدستورية :

  • الوضع الجماعي للخطوط العريضة الخاصة بالقوانين الكبرى المهيكلة للحقل السياسي مثل قوانين الأحزاب، وقوانين الحريات العامة (الصحافة – التجمعات – الجمعيات)، وقوانين الانتخابات، وقوانين القضاء، وقوانين الإعلام العمومي، وعدد من القوانين التنظيمية، وذلك في أفق توطيد فصل السلطات واستقلال القضاء، ومنح الأفراد والجماعات ما يكفي من الضمانات المتعلقة بحرياتهم وحقهم في التعبير والتنظيم والاحتجاج السلمي، وباحترام الإعلام العمومي لمعايير الاحترافية والموضوعية والحياد والتعددية.
  • تدابير الانفراج السياسي، وذلك من خلال إعطاء تعليمات عاجلة بتطبيع علاقة الدولة والإدارة بالمواطنين، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ورفع الحظر المفروض على تنظيمات سياسية سلمية، وإلغاء العراقيل المفروضة على تأسيس الأحزاب والجمعيات، وفتح الفضاء الإعلامي العمومي على مختلف تعبيرات المجتمع، وتقديم توجيهات صارمة، إلى كافة مسؤولي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، لحملهم على احترام منظومة الضوابط المعمول بها في البلدان الديمقراطية.
  • مساطر العدالة الانتقالية، وذلك عبر إقرار المحاسبة الضرورية عن الجرائم الاقتصادية والسياسية، وتوفير ضمانات عدم التكرار، وإنصاف الضحايا، ومعرفة كامل الحقيقة والكشف عن المعلومات المطلوبة عن الانتهاكات التي عرفها الماضي، وحل الأحزاب الإدارية، وفتح تحقيق عن ملابسات مسلسل المتابعات والتوقيفات التي أعقبت أحداث 16 ماي، وتأسيس هيئة بديلة عن هيأة الإنصاف والمصالحة التي لم تحقق الأهداف المرجوة منها، وتوفير شروط التخلص من كل أشكال التدخل في الحياة الحزبية، والالتزام بكل الاحترازات الضامنة للفصل بين السلطة والمال، والمحققة لتنافسية الحقل الاقتصادي، ووضع حد لظاهرة “المخزن الاقتصادي” وتصفية الآثار التي ترتبت عن ذلك في الماضي.
  • حل الإشكال الانتخابي، من خلال تقديم الضمانات التي تسمح بتوسيع دائرة اللاعبين المشاركين في الانتخابات وبمحاربة أسباب العزوف الانتخابي، وتحرير الحقل الانتخابي من تأثير المال ومخططات الضبط الرسمي، وتحقيق رجة سياسية تسمح للانتخابات بلعب دورها السياسي كمجال للتباري بين البرامج، وفرض حيادية “الدولة”، وضمان تصرف كافة أجهزتها على أساس أنها تقف على نفس المسافة من كافة الأحزاب السياسية وليس لها حزب مفضل ولا مشكلة لها مع أي حزب أو أية نتيجة، ولا يهمها من سيفوز في النزال الانتخابي.
  • تنفيذ برنامج اقتصادي واجتماعي إصلاحي. هذا البرنامج لا يتعين أن يتخذ شكل إجراءات تقنية وفنية، فقط، بل يجب أن يستهدف محاربة الريع والفساد والبطالة، وضمان شروط الحكامة الجيدة وتكافؤ الفرص، وتحرير الحقل الاقتصادي من القيود التي تكبل الاستثمار وتحد من التنافسية وتخدم فئة من المحظوظين وذوي الامتيازات والمقربين من دوائر القرار، وتعبئة الموارد الضرورية للنهوض بقطاعي التعليم والصحة ورفع العزلة عن البوادي والمناطق المهمشة، ووضع حد للمظالم التي يتعرض لها سكان العالم القروي، ومحاربة التفاوتات الاجتماعية والمجالية، وإلغاء الصناديق السوداء، واتخاذ كل ما يلزم لوقف كل أشكال الضغط السياسي على الفاعلين الاقتصاديين وتجريد عمل الإدارة الضريبية من أية خلفية سياسية.

الباب الرابع - التحالفات :
من "الفيدرالية" إلى "جبهة الانتقال"

إن العلاقات بين الأطراف السياسية، في نظرنا، تخضع لنوع من التصنيف الرباعي، فهي يمكن أن تتدرج من الحوار، إلى التنسيق، ثم التحالف فالاندماج.

الحوار يمكن أن يتحقق حتى مع أطراف نختلف معها في الرؤى والتصورات، وهو لا يعني، بالضرورة، وجود إمكانات للمضي قدماً نحو التنسيق أو التحالف.

ومع ذلك، فنحن نعتبر أن القوى التي يمكن أن نحاورها هي القوى الديمقراطية، بمختلف مشاربها، ليبرالية أو إسلامية أو قومية أو الحركة الثقافية الأمازيغية، والتي تجتمع فيها، أيضًا، شروط ثلاثة :

  • اعتماد السلمية.
  • نزاهة الوسائل.
  • الاستقلالية عن جهاز الدولة.       

والحوار له وظيفة عرض الأفكار وتدقيقها، والقيام بقراءات متقاطعة لوضع أو مسألة، وإتاحة الفرصة، أمام الرأي العام، لتبين الفروقات والاختلافات بين الأطراف وتقدير وجاهة حججها ومدى متانة مرافعاتها، والبحث عن نقاط مشتركة وعن استعداد الأطراف لتغيير بعض منطلقاتها أو لتبديد سوء التفاهم القائم في نظرة الأطراف إلى بعضها البعض.

وبالنسبة إلى التنظيمات الإسلامية، في المغرب، فإننا لا نرى مبرراً لقيام حوار رسمي مباشر، حالياً، مع أي منها، إلى أن يقرر مجلسنا الوطني جواز ذلك، في شروط واحترازات يحددها مسبقا، وبالنسبة إلى أطراف إسلامية بعينها.

لكن التناظر الممكن، حاليًا، في إطار الصراع الفكري والسياسي، مع شخصيات إسلامية، هو ذلك الذي يتقيد بالشروط التالية :

  • أن يتم تحت إشراف ورعاية هيأة إعلامية أو فكرية محايدة وذات مصداقية.
  • أن يشارك فيه مناضلونا بصفة شخصية.
  • أن لا يكون هناك اتفاق مسبق على تتويج الحوار ببيان أو ميثاق مشترك يوقعه المشاركون.

يقوم مفهوم التنسيق، في نظرنا، على استثمار التطابق في الرأي، القائم حول موضوع أو ملف أو مسألة محددة، لقيام عمل مشترك وتحركات في الميدان وتعاون على خدمة وتفعيل الوحدة في الرأي التي تجمعنا بتنظيم سياسي أو جمعوي أو نقابي أو غيره.

والتنسيق يكون مع الأحزاب والهيئات، التي تكون، في منطلقها ديمقراطية، سلمية، ونزيهة الوسائل ومستقلة عن جهاز الدولة، لأن الحزب غير المستقل ليس، في الأصل، حزبًا، بل هو أشبه بملحقة إدارية.

ورغم أن الأحزاب “التاريخية” فقدت جزءاً من مصداقيتها واستقلالها ونزاهة وسائلها، فيمكن التنسيق معها في قضايا محددة (التعليم – الحداثة – حقوق المرأة..) من خلال مناضليها وقطاعاتها وفروعها (التنسيق بين المستشارين الجماعيين). ويجب التذكير، في هذا الصدد، بضرورة انكباب أحزاب الفيدرالية على بحث مآل التوجيهات المقدمة إلى مستشاريها الجماعيين بعدم التنسيق أو التحالف مع منتخبي الأحزاب الإدارية وحزب العدالة والتنمية.

كما يمكن التنسيق مع (النهج الديمقراطي)، ومع الحركات والنقابات والهيئات المدنية في إطار التنسيقيات والإئتلافات، ومن أجل القيام بمبادرات ذات طابع حقوقي أو فكري أو اجتماعي (الخدمة العمومية – المدرسة العمومية – ارتفاع الأسعار – حقوق المرأة – التضامن مع المواطنين – مناهضة القمع..).

في انتظار المؤتمر الاندماجي، فإن إطار التحالف الرسمي الذي يجمعنا، حاليًا، بأحزاب أخرى، هو فيدرالية اليسار الديمقراطي، الذي نريده أن يمثل نواة صلبة لتحالف أكبر إذا توفرت شروطه.

وهناك نوع من التحالف الرمزي أو المعنوي قائم بيننا وبين جزء من المجتمع المدني المغربي، رغم أنه لا يحمل، من الناحية القانونية، صبغة حزبية.

التحالف يكون مع القوى الديمقراطية التي نستطيع وضع برنامج نضالي مرحلي معها. وهذا يتطلب، في نظرنا، وجود تقارب في الرؤية السياسية الشاملة وانعدام تناقض جوهري، بيننا، في مضمون التوجهات والأهداف والبرامج.

ولا يُستخلص التعارض أو التقارب، من خلال المواثيق المكتوبة والموقعة بين الأطراف، بل، أيضاً، من خلال ما ينشره كل طرف، على العموم، أو بين أعضائه، من أفكار وما يُسَوِّقُهُ من خطابات ومفاهيم، ومن خلال ممارسته الميدانية، أيضاً، وطبيعة هياكله وتنظيماته.

ونعتبر أن التحالف السياسي يقتضي، فضلاً، عن الشروط التي حددناها، بصدد القوى التي نقبل التنسيق معها، توفر شرط العمل على تحقيق الملكية البرلمانية في المغرب، ومن يحمل تصوراً آخر للتغيير من حقه أن يبحث عن حلفاء آخرين غيرنا. نحن لا نفرض على الآخرين تصورنا، ولكننا لا نقبل أن يفرض علينا، أي كان، ركوب قطار التغيير دون اتفاق مسبق على وجهة الوصول، نحن لا نُضَلِّلُ أحداً ولكننا لا نقبل أن يُضَلِّلَنَا أي كان وأن يتوارى خلف خطابات مغرقة في العمومية لإخفاء أهدافه السياسية باسم الثورية أو دولة الخلافة، أو غير ذلك.

وتُثار، في هذا الصدد، كثير من التساؤلات، حتى لدى عدد من أقرب أصدقائنا، حول سبب رفضنا التحالف مع جماعة العدل والإحسان ما دامت هذه الأخيرة تمثل تنظيماً معارضاً، متوفراً على قوة بشرية وازنة، واستقلالية عن أجهزة الدولة، ورغبة في التغيير والتحرر من أغلال الاستبداد المخزني، وما دام أعضاؤها، هم في أغلبهم، أبناء الشعب الذين يعانون الظلم والاضطهاد والاستغلال والفقر والحرمان مثل أغلبية المغاربة.

موقفنا لا ينطلق من فراغ أو من عداء مجاني مسبق، بل يقوم على فكرة بسيطة مؤداها أن الاتفاق على مناهضة الاستبداد القائم لا يعني توفر الإرادة، لدى جميع المتفقين، لبناء بديل ديمقراطي حقيقي، بل قد يخفي رغبة البعض منهم في إعادة استنساخ الاستبداد بصيغة أخرى ولباس مغاير.

الجماعة اختارت التقيد بالمنهاج، منذ حياة مرشدها وإلى حدود الساعة، ولم يجبرها أحد على ذلك، وهي تمتح من مرجعية تؤمن بالخرافة والمعجزات وتلغي حرية الاعتقاد وتقوم على معاداة اليهودية كديانة، وهي تكرر، في الوثيقة التعريفية بنفسها وبكل وضوح وجلاء، رفضها الالتزام بالديمقراطية حسب القواعد المتعارف عليها كونياً، واعتمادها نظام “الشورى” الذي ليس هو الديمقراطية، بل هو، في نظر الجماعة، نظام أشمل وأسمى، وهو المرجع المُعَوَّلُ عليه لحل “كل” المشاكل، بما في ذلك “المشاكل الروحية”؛ فالنظام الديمقراطي شيء، والنظام الشوري، شيء آخر. هذا النظام الأخير يرمي إلى تحقيق ما تسميه الجماعة “هيمنة أمر الله على كل أمر، وحاكمية الله على كل حاكمية”، أي أنه يسمح للحاكم بالحديث باسم الله وتحويل أوامره إلى أوامر صادرة من الله؛ أما الديمقراطية، فهي، حسب الجماعة، “انهزام أمام الطاغوت”.

والجماعة تردد، دائماً، أن مشروعها هو “إعادة الخلافة على منهاج النبوة بعد الحكم العاض الجبري الذي دام قروناً طويلة”، وعليه “يجب على المؤمنين في العالم أن ينصبوا خليفة عليهم، باجتماع أولي الأمر من رجال الدعوة والدولة الإسلاميين، وانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم. وقبل الوصول إلى نظام الخلافة، وهو النظام الموعود في حديث الإمام أحمد، وهو النظام الشرعي، يُقام إمام قطري في كل بلد تَحَرَّر..”. وهكذا يتجلى من خلال مواصفات هذه الخلافة، والشروط المطلوبة في الخليفة، أننا سنكون أمام دولة بديلة عن الدولة الوطنية، أي دولة دينية تصبح فيها جنسية الفرد هي ديانته، وتسودها العلاقات المفروضة داخل “جماعة” قائمة على وحدة الاعتقاد الديني وليس داخل دولة حديثة تجمع أفرادها إرادة العيش المشترك فوق تراب معين، ويحكمها القانون ومبدأ مساواة الجميع أمامه.

والجماعة تخلط بين الثقافة، التي تسود داخل جماعة صوفية، بما فيها من ترقية وتجلية ورؤى ومشاهدات..إلخ، والثقافة المفروض أن تسود داخل تنظيم سياسي يقوم على التعاقد المدني والعقل والالتزام بما كل ما يترتب عن إعمالهما في الحياة اليومية من آثار وتبعات. وهكذا، لا ترى الجماعة حرجاً، مثلاً، في تحويل رؤيا أو مشاهدة إلى شعار سياسي وإدخاله في يوميتها السياسية؛ فكيف يمكن الاطمئنان إلى عزمها الوفاء بعهودها إذا ما تواترت، لدى أعضائها، رؤيا تدعوهم لفعل العكس؟

إن استخراج أداة “الرؤى” لتعبئة الأعضاء يمكن أن يتحول إلى سلاح للتحلل من الالتزامات، وبدون التمييز بين المجال الصوفي والمجال السياسي، فإن الدعوات إلى التعاقد مع الآخرين، تظل بلا معنى.

وأخطر ما ينطوي عليه مشروع الجماعة، هو تبنيها خطة استعمال الديمقراطية ثم الانقلاب عليها بعد ذلك، ويظهر ذلك صراحة في فقرات عدة من “المنهاج”؛ ومن ذلك، مثلاً، ورود ما يلي بالصفحة 34 من الطبعة الثالثة : “قد يكون بعضنا تحت نظام من أنظمة الجبر ألجأته ضرورة البحث عن مشروعية ما أن يفتح باب الحريات العامة. إن كان هذا فخط عالمنا المودودي رحمه الله أن يساهم المسلمون في اللعبة الديمقراطية. هذا يتيح للمسلمين أن يُعَرِّفُوا بقضيتهم وحلهم لمشاكل الأمة على وضح النهار. ولوجود هذا الوضوح يتهيأ للمسلمين أن يقارعوا الحجة بالحجة ويبلغوا للناس رسالتهم من منابر البرلمان والتجمعات والمناصب الانتخابية.

هذا جيد، مع السكوت المؤقت الضروري عن أن الإسلام له مشروعيته، وهي شيء آخر غير مشروعية الديمقراطية التي تسمح لصنائع أمريكا وروسيا بالتربع على منصات الأمة، يعلمونها الخنوع للكافرين والإلحاد في دين الله”.

وعليه، فإن من حق كل ديمقراطي يتلقى من الجماعة دعوة إلى العمل السياسي المشترك، أن يرى في هذه الدعوة سكوتا مؤقتا ضرورياً عن أن غاية الجماعة، عندما تصل إلى الحكم وتستلم مقاليد السلطة، هي تطبيق شيء آخر غير الديمقراطية، وتحالفها مع الديمقراطيين، في مرحلة ما، هو مجرد مكايدة او مرونة ظرفية أوصى بها “الإمام المجدد”، خاصة أن الجماعة لا تحدد نظاماً سياسياً معيناً، من الأنظمة القائمة حالياً، على أنه الأقرب إلى النظام الذي تتبناه، باستثناء بعض التلميحات المُسْتَحْسِنَةِ للثورة الإيرانية في كتابات الشيخ عبد السلام ياسين، بينما الديمقراطيون، الذين يرفعون شعار الملكية البرلمانية، يعبرون عن رغبتهم في اعتماد نموذج الملكيات البرلمانية الغربية (إسبانيا – بريطانيا – بلجيكا – هولندا – السويد – الدانمارك..إلخ). وهكذا يتعين، أن ننتظر نجاح الجماعة في بناء ها النظام ببلادنا لكي نتعرف على مقوماته ونتمكن من اكتشافه، فالجماعة لا تمنحنا أية ضمانة مسبقة، وتطلب منا، عملياً، أن نمنحها شيكاً على بياض.     

ومن جهة أخرى، وبوعي تام اخترنا أن نعقد نوعاً من “التحالف” مع جزء من المجتمع المدني، لأن السياق المغربي، اليوم، يجعل من التحالف مع المجتمع المدني التقدمي، أو مع جزء منه على الأصح، ذا مضمون سياسي. لقد تراجعت وظائف وأدوار الأحزاب ووجد المجتمع المدني نفسه، موضوعياً، بصدد سد الفراغ، وأصبحت له أدوار سياسية. كما أن الوضع السياسي المتردي لعدد من التنظيمات اليسارية دفع بعدد من أطرها إلى ممارسة نوع من الهجرة القسرية إلى قارة المجتمع المدني والاشتغال فيها وفق تصور يساري في انتظار تحسن أوضاع اليسار. يُضاف إلى ذلك، إقدام عدد من النخب على إنشاء جمعيات ذات وضع مركب، فهي ليست بأحزاب ولكنها تمارس السياسة من خلال التفكير فيها وتقديم المقترحات والبدائل وتتبع وتحليل الأوضاع السياسية.

الجمعيات السياسية أنواع، وظهرت في سياقات مختلفة. بعضها جاء لتحضير أحزاب بعينها لخوض تجربة التناوب. وبعضها جاء ليطرح نفسه كبديل عن الأحزاب السياسية. وبعضها وُجِدَ من أجل ضمان تجميع عدد من الطاقات التي غادرت أحزابها أو انتفضت على الشكل غير الأخلاقي الذي غدت هذه الأحزاب تمارس به السياسة، واعتبرت وجودها في جمعياتها محطة “ترانزيت” في انتظار عرض سياسي جديد.

إن اندماج عدة بنيات وتيارات وشخصيات ورموز في حزب سياسي واحد يعني أنه تحققت لها وحدة عامة على مستوى ثلاثة عناصر وهي :

  • المرجعية الفكرية المؤسسة للمشروع المجتمعي المنشود.
  • الرؤية الإجمالية للنضال السياسي والأهداف القريبة والبعيدة لذلك النضال (الخط السياسي).
  • النمط التنظيمي المعتمد في الحزب الناجم عن الاندماج.

نعتبر أن وحدة هذه العناصر الثلاثة متحققة، أو هي قيد التحقق أو من الممكن أن تتحقق، بين :

  • الأحزاب السياسية المكونة لفيدرالية اليسار الديمقراطي.
  • عدد من الجمعيات السياسية (جمعية وضوح – طموح – شجاعة، وجمعية أنفاس..)
  • حساسيات أو تيارات داخل أحزاب وطنية ديمقراطية تاريخية، غادرت أحزابها، أو لم تغادر أحزابها الأصلية ولكنها لا تشارك في دورتها التنظيمية ولا تزكي مواقف قياداتها.
  • قيادات ونشطاء الحركات الاجتماعية ذات الأهداف والقيم المشتركة معنا.

وبعد انبثاق الحزب اليساري الجديد، سيكون عليه التحالف مع أحزاب أو تيارات ليبرالية أو إسلامية، تقبل بالنضال من أجل الملكية البرلمانية، إن وُجِدَتْ.

طبعا، ونحن نتحدث عن إمكان التحالف مع أحزاب أو تيارات إسلامية، نستحضر كون أغلب الحركات الإسلامية، في العالم، وفي المغرب أيضاً، هي يمين متطرف، بمواصفاته وعاهاته المعروفة، والتحالف مع اليمين المتطرف لبناء جبهة مفترضة ترعى النضال من أجل الانتقال، محفوف بالمخاطر ولا تكون له حظوظ مؤكدة للنجاح، ويُعَرِّضُ مصلحة البلاد للخطر، لأن نجاح مسعى جبهة الانتقال رهين بقيامها على نواة إصلاحية معتدلة، إذ لا يمكن الاعتماد على غير المعتدلين لإنجاح الانتقال. ولهذا فإن اشتراط قبول التيارات الإسلامية بالنضال من أجل الملكية البرلمانية، في السياق المغربي، يمكن أن يكون مؤشراً على التحرر من وجهها “المتطرف”، وخاصة إذا ترافق ذلك مع اقتناعها بحرية المعتقد.

الباب الخامس - التنظيم والأداة :
حزب متطور من طراز جديد قادر على الجمع بين المبادئ والنجاعة

على الرغم من عناصر القوة التي تميز حياتنا التنظيمية والتراكمات التي حققناها فإن تنظيمنا الحزبي مازال يعاني الكثير من الاختلالات، نذكر منها :

  • ظاهرة عدم تفعيل القرارات والقوانين والمساطر (الآجال – المهام – التداول).
  • عدم وظيفية التنظيم، فنحن لا نتمكن، دائماً، من ربط التنظيم بمهام محددة بسيطة وواضحة وواقعية والمحاسبة على أساسها.
  • عدم القدرة على حسن استقبال الوفادة الجديدة (المنخرطون الجدد يحسون بأنفسهم ضائعين بلا بوصلة).
  • عدم مواكبة التنظيمات لعمل المناضلين في الواجهات والمنظمات الجماهيرية.
  • التجربة العملية لم تنجح في تشخيص منتج لفكرة التيارات وظلت أشبه بمعارضة دائمة للقيادة.
  • الانطلاق، دائماً، من الصفر وعدم تحقيق التراكم المطلوب.
  • غياب قاعدة معلومات دقيقة عن التنظيم الحزبي.
  • ظاهرة الهدر التنظيمي، ففي كل مرحلة يظهر كما لو أنه محكوم علينا بفقد جزء من مناضلينا.
  • وجود نقاش “داخلي” غير مقيد بالضوابط يؤدي إلى تكريس صورة “خارجية” أقرب إلى السيئة.

ثقافة الانفتاح تتطلب منا أن نأخذ المبادرة فيه ونخطط له ونحدد مسبقاً الأهداف التي يتعين الوصول إليها. الانفتاح ليس مجرد طقس استقبال بارد وسلبي. والانفتاح لا يكون، فقط، على أفراد نتقاسم معهم مائة في المائة من الأفكار، بل على من نتقاسم معه أغلب الأفكار الأساسية.

والانفتاح يكون على مواطنين، نريدهم شركاء داخل بنيتنا الحزبية نشتغل بجانبهم ويشتغلون بجانبنا، ولا نريدهم مجرد يد عاملة “نشتغل بها”، ونجعل من معيار الأقدمية حاجزاً في وجه الإفادة من عطائها على الوجه المطلوب.

إن المنخرطات والمنخرطين الجدد في حزبنا، في أغلبهم، لهم إدراك عميق لخصوصية مشروعنا، ودخلوا الحزب على هذا الأساس، فالمجتمع المغربي يتحول، ووسائل التواصل الاجتماعي تسمح للشباب اليوم أن يُكَوِّنَ فكرة واضحة عن الحزب الذي يريد أن ينخرط فيه.

طبعاً لا بد من شروط احترازية في عملية ضم طالبي العضوية، لكن ما هو موجود في قوانينا الحالية كاف، ولا حاجة لاصطناع حواجز جديدة نغلق بها عملياً أبوابنا.

الانفتاح يتطلب قبولنا بالعمل مع أعضاء تقدميين ويساريين لهم اجتهاداتهم الخاصة ومسارهم التاريخي الخاص وأسلوبهم الخاص في القول والتعبير، ومنحدرين من أوساط مختلفة. وليس في هذا قطيعة مع هويتنا وتاريخنا وثقافتنا.

يجب أن نغير طريقة اشتغالنا، بشكل جذري توخياً للنجاعة والفعالية، ابتداء من طريقة اشتغال قيادتنا الوطنية ومكتبنا السياسي، على وجه الخصوص. وهذا يتطلب وضع تعاقدات تنظيمية جديدة لتطوير أداء المؤسسات الحزبية واحترام قراراتها وجعلها بؤراً للمبادرة والإبداع والحركة والفعل وتسريع إيقاعها.

إننا، طبعاً، سنحافظ على هويتنا اليسارية، وليس هناك أي داع للتفريط فيها، ولن تكون هناك قطائع على مستوى قناعاتنا ومبادئنا، ولكن القطائع المطلوبة يجب أن تطال طرق اشتغالنا ومناهج عملنا وإيقاع تحركنا.

ليس لدينا مشكل متعلق باختياراتنا، فنحن لا نشك في صوابها، ولكن لدينا مشكل في طرق العمل، فانتخابات 7 أكتوبر 2016 تفيد، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه كان بإمكاننا تحقيق نتائج أحسن بكثير من تلك التي حققناها لو اعتمدنا طرق عمل جديدة، وفي الدوائر التي استطعنا فيها تجديد آليات اشتغالنا الانتخابي، ظهرت آثار ذلك واضحة جلية.

يتعين أن يكون مؤتمرنا الوطني الرابع مناسبة لإبرام تعاقدات سياسية وتنظيمية تهم المستقبل، في ضوء دروس الماضي، وهكذا يلزم تغيير طريقة عمل القيادة، ووضع قانون داخلي خاص بالمكتب السياسي، يرمي إلى ملاءمة عمل هذا الجهاز مع متطلبات بناء حزب من طراز جديد.

يجب أن يُكَلَّفَ كل عضو في المكتب السياسي بمهمة محددة، يُحَاسَبُ على أساسها، في إطار رؤية ترمي إلى ضمان وظيفية الجهاز القيادي وجعله وعاءً للمبادرة والإبداع والإنتاج، ومحفزًا للمناضلين، أيضاً، على المبادرة والإبداع والإنتاج.

كما يجب ضمان الاحترام المستمر للقرارات المتخذة، والاحترام المستمر للمؤسسات، والاحترام المستمر للمناضلين.

يمكن لكل عضو في القيادة، التعبير عن رأيه بكامل الحرية، داخل الأجهزة، ولكنه ملزم بالدفاع، في المحافل العامة، عن القرارات المتخذة ديمقراطياً والالتزام بها في سلوكه وعدم عرقلة تنفيذها.

وعلينا احترام المؤسسات، وذلك بالمواظبة على الحضور في اجتماعاتها، والرجوع إليها في كل القضايا الداخلة ضمن اختصاصاتها، وعدم تحويل الفضاء الأزرق إلى بديل عنها.

وعلينا احترام المناضلين، قادة وقاعدة، وعدم شن حملات للتشهير في حق مناضلين نختلف معهم في التقدير، بالنسبة إلى هذه النقطة أو تلك، أو التنقيص من قيمتهم أو محاكمة نواياهم.

الحزب الاشتراكي الموحد فضاء ديمقراطي يتيح لأعضائه حق النقد، وحق تكوين تيارات، وحق ممارسة الاختلاف، في إطار المسؤولية والاحترام المتبادل والعلاقات الرفاقية بين المناضلين وبين القاعدة والقيادة، مع الالتزام بالتوجهات التي تنبثق عن الأجهزة التقريرية، مع تمتيع تياراته وعضواته وأعضائه بحق استئناف أي قرار يرونه جائرًا أو غير ملائم في حقهم ووضع آليات الاستئناف.

لقد توصلت لجنة التنظيم والقوانين، المنبثقة عن مؤتمرنا الوطني الرابع إلى اقتراح جملة من التعديلات الهامة على قوانين الحزب.

وهكذا جرى الاتفاق على إمكان تواجد مناضلين، لم يصوتوا على الأرضية الفائزة، في تركيبة المكتب السياسي، وتواجد مناضلين لم تتوفر لهم في الحزب سوي أقدمية ثلاث سنوات، وهذا يمنح إمكانية لإغناء النقاش داخل الجهاز التنفيذي الوطني ولضم وجوه جديدة.

كما تم الاتفاق على الزيادة في نصاب تمثيل النساء لتأكيد حرص الحزب المستمر على تقوية حضور المرأة في مختلف أجهزته.

ولضمان فعالية الأجهزة، تَمَّ اقتراح منع المتغيبين، في الأجهزة السابقة، من الترشيح، أو الذين ليست لهم القدرة على النهوض بمهام الأجهزة التي سيترشحون لعضويتها أو الذين أخلوا بالتزاماتهم المالية.

وجرى اقتراح توسيع المجلس الوطني بالشكل الذي يتيح تمثيل طاقات جديدة به، واشتُرط لعضويته أقدمية سنتين فقط.

ومن أجل ضمان تمثيل محترم للجهات، في المجلس الوطني، جرى اقتراح اعتماد لوائح الترشيح الجهوية بجانب اللائحة الوطنية.

وللمزيد من توضيح الأدوار والوظائف جرى اقتراح الفصل بين المهام التنفيذية التي تدخل في دائرة مساعدة المكتب السياسي في عمله، والمهام الاقتراحية التي تدخل في دائرة مساعدة المجلس الوطني في عمله، وذلك من خلال التمييز بين اللجان الوظيفية التنفيذية واللجان الوظيفية الاقتراحية.

ولتجويد مردودية التيارات، جرى اقتراح وضع ضوابط جديدة لعمل التيارات.

ولضمان المزيد من آليات الرقابة الداخلية، جرى اقتراح إحداث لجان تقصي الحقائق، عند الاقتضاء.

ويمكن العودة إلى تقرير لجنة التنظيم والقوانين، للاطلاع على تفاصيل التعديلات القانونية المقترحة.

ونود، في هذه الأرضية، عرض المزيد من الأفكار التي نرى أن من شأنها إغناء النقاش داخل المؤتمر، حول قضايا التنظيم، والمساعدة على بلورة المزيد من الإجراءات والمقترحات. وهكذا نرى ضرورة التأكيد على :

  • إعادة الاعتبار لعنصر الزمن في التخطيط والتدبير من أجل تحقيق تسريع عام لإيقاع العمل، وتجنب التحلل الناجم عن طول لحظات الفراغ والبياض التنظيمي، أحياناً.
  • حسن استثمار وسائل التواصل الاجتماعي، والعمل على تجذير الوعي بأهميتها في مرحلة ما بعد الحزب الكلاسيكي.
  • التشبث بالثقة في النفس وبإمكانات التقدم المتاحة أمامنا وتغيير إيقاع العمل والنظر إلى المستقبل بحماس وتفاؤل.
  • الحرص على الاحتفاظ بتجربة التيارات والعمل على تطوير أدائها.
  • إعطاء الأولوية لخطة التجذر في المجتمع وتقوية أدوات الحضور والتدخل والمشاركة في الحياة اليومية للمواطنين، والارتباط بهياكلهم القاعدية وتطوير آليات القرب من المواطنين، والتنسيق بين تجارب المناضلين المختلفة في هذا المجال، والعمل في اتجاه توفير المزيد من الشبكات التي تُعنى بتطوير الآليات المذكورة وتبادل الخبرات والتعاون بينها.
  • وضع نظام جديد للاجتماعات الحزبية يحدد، بوضوح، قواعدها والإجراءات التي تضمن الرفع من مردوديتها وترشيدها.
  • الحرص اليومي، من طرف تنظيماتنا، على التتبع المستمر لمجريات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، داخلياً وخارجياً، وذلك وفق منهج علمي، نتجنب به اجترار الأحكام الجاهزة.
  • اعتماد لغة قريبة من الواقع وتبسيط الخطاب لضمان نفاذه إلى إدراك أوسع الشرائح الاجتماعية.
  • التزام التنظيمات، سنوياً، بخوض حملة التسجيل في اللوائح الانتخابية.
  • العمل وفق القاعدة التي تقضي بالشروع في تحضير الانتخابات المقبلة مباشرة بعد انتهاء أية انتخابات.
  • حرص كافة التنظيمات الحزبية على تنمية وتجذير ثقافة المبادرات والاجتهاد والإبداع، واستكشاف مجالات جديدة للفعل والإنتاج.
  • إعطاء الأولوية، في برامج فروعنا وتنظيماتنا، للتغلب على مشكل “المرئية” ومساعدة المواطنين يومياً في التعرف علينا وعلى رموزنا.
  • التفكير في طرق جديدة للتغلب على المشكل المالي (تنظيم حفلات مؤدى عنها).
  • تعميم نظام التحويلات البنكية الشهرية لتدبير مسألة الاشتراكات الحزبية.
  • البحث عن صيغة جديدة، أكثر عملية، لتوزيع بطائق العضوية.
  • تقوية وتوسيع القطاعات الحزبية والمنظمات الموازية، وتعميق التعاون، مع قطاعات الحزبين الآخرين المنضويين في إطار الفيدرالية.
  • التحديد المسبق لحجم العضوية التي نريد الوصول إليها في كل مرحلة.
  • وضع استمارة خاصة بالمنخرطين الجدد للتعرف على حقول اهتمامهم، وتقييمهم لأداء الهياكل والأجهزة الحزبية، والكيفيات التي جرى بها الالتحاق بالحزب، والمحفزات التي دفعتهم إلى اختيار الالتحاق بالحزب، ومقترحاتهم بالنسبة للمستقبل.
  • توسيع شبكة المقرات، وعقد ندوة خاصة بدراسة مشاكل المقرات وجرد احتياجاتها ومعالجة أوضاعها ووضع نظام داخلي خاص بها وبرنامج لتكوين المداومين، وتعزيز تجربة المقرات المشتركة بين أحزاب الفيدرالية.
  • إصدار نشرة داخلية إلكترونية شهرية خاصة بمناضلي الحزب.
  • عقد ندوة وطنية يساهم فيها المناضلون والمتعاطفون الشباب الذين ساهموا في التأطير الإلكتروني لحملة الفيدرالية في انتخابات 2016، والذين نظموا حملة الانفتاح على أعضاء جدد، من أجل تعميق التعاون والمكتسبات والتخطيط لعمليات أكبر حجما في المستقبل.
  • إعداد بنية تحتية للإعلام السمعي والإلكتروني الحزبي (أستوديو – طاولة للتوضيب – فيديوتيك..إلخ).
  • إعادة صياغة مدونة السلوك وتضمينها عدد من الالتزامات المتعلقة باستعمال وسائط الاتصال الجديدة.
  • الانفتاح على بعض التجارب الأجنبية في مجالات إدارة الحملات الانتخابية والدعاية الحزبية والتنظيم وفق أحدث الطرق، ودعوة مؤطرين من أحزاب صديقة للإشراف على تكوين شبابنا الحزبي.
  • إنشاء مدرسة للتكوين الحزبي.
  • عقد ندوة وطنية للعمل النقابي لضمان تنسيق عمل مناضلينا في هذا الحقل الحيوي ودراسة سبل تطويره وتجديده وإغنائه.
  • توطيد العلاقة مع مركز محمد بنسعيد آيت إيدر ودعم عمله وتوسيع مجال التعريف به.
  • خلق إطار دائم للتشاور والحوار مع الشخصيات الأكاديمية والفنية والحقوقية والمدنية والإعلامية التي وجهت رسالة الدعم إلى رفيقتنا نبيلة منيب بمناسبة انتخابات 2016.
  • وضع خطة سنوية لتتبع نشاط المستشارين الجماعيين وعمل النائبين البرلمانيين المنتمين للحزب، والتعريف بمجهوداتهم ومبادراتهم، ومساعدتهم في أداء أدوارهم على الوجه الأكمل، وضمان التنسيق الوطني وتبادل المعلومات والتجارب والمعارف بينهم.